السبت، 28 يناير 2012

هَيْبة الغياب


هَيْبة الغياب

 لعل أغلب الكتابات والتعليقات التي وقعت عليها هنا وهناك ، تتفق على ضرورة وأهمية تكريم المبدعين في حياتهم ، وليس بعد رحيلهم ، كون تكريم المبدع قبل رحيله ، يعني اعترافا صريحا من المجتمع بأهمية مساهماته وإبداعه ، ويمنحه مزيدا من الإصرار على التجلي والعطاء ، ويُشعره بأنه ساهم في وضع لبنة في الصرح ..
وهذا ـ ربما ـ أغلى ما يناله المُكرَّمون الأحياء من مجتمعهم ..
ومن حيث المبدأ ، أنا من دعاة ومؤيدي ذاك الرأي ..
( لكن الخشية أن يقوم المبدع بالتكويع بعد تكريمه ، كما حصل مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ، مثلا ) ..

وهنا سأناقشه من زاوية أخرى ، وتحديدا ، فيما يختص بـ ( شخصية المكرَّم في الكتابات التكريمية ) ..

لا شك أن لتكريم المبدعين آثارا هامة ، حين يُكرَّم المبدع وهو في أوج حياته وعطائه ..
فذاك له متعته وأهدافه الإنسانية النبيلة المطبوعة بالتقدير الرسمي والاجتماعي والثقافي ، من جهة ، وله نتائجه الإيجابية على المكرَّمين وأحوالهم بمختلف وجوهها ، من جهة ثانية .. 

وبعيدا عن تلك الآثار ، فإنه إذا حضرنا حفل تكريم مبدع على قيد الحياة ، لوجدنا حفل التكريم كـ "حفل التأبين " ..
إذ تتخذ الكلمات طابع " الرثاء المسبق " الذي يستدر دموع المستمعين ، لكثرة ما يُدعى له بدوام الصحة وطول العمر ، حتى تتكأكأ الآهات والأوجاع ، فيشعر المُكرَّم بدنو الأجل ، وبأنه " قاب قوسين أو أدنى " من حافة قبره ..
ونراه يعبر عن سعادته بقوله : " لو مت الآن سأكون مرتاحا بعد تكريمكم هذا " ..

وإذا كان المكرَّم راحلا ، صار حفل التكريم أقرب إلى احتفالية تحوّل المكرّم إلى شخصية أخرى لا يعرفها أقرانه ولا أصحابه ولا أهله ..

ويمكن وصف بعض كلمات التكريم عامة ، بأنها موضوعية ، لكنها لا تخلو من التحيز الشخصي أو العاطفي ، فيما بعضها الآخر ، يكون ذا طابع شخصي أو عاطفي ، لكنه أيضا ، ليس بعيدا عن الموضوعية ..

وقد وجدت أن " هيبة الغياب " تمنحني أريحية أكثر في استكناه المكنون والزاد الموضوعيين ، لدمجهما في الإطار الودي أو العاطفي أو الحميمي ، وصولا لحالة من الألق المتوهج ، الذي يُضاف للشخصية الراحلة ، فتجعلها أكثر وضاءة وحضورا وتأثيرا في الزمان والمكان ..
ووجدت ـ يقينا ـ أن الغياب له " هيبته " الحقيقية التي تجعلنا نقشعر شوقا ومودّة لأولئك الراحلين ، بعد أن بتنا متأكدين من غيابهم ، ومستسلمين له ..
وقد تنمو هذه الهيبة باضطراد أكثر ، وبتأثير أكبر ، من حالة " الهيبة " التي نلمس إشعاعها من " حضور " شخصيات موجودة بيننا ..

ثم ، إني أرى في تكريم الراحلين نوعا من " الرثاء الشجي " ـ إذا صح التعبير ـ المفعم بأطايب الآثار الإبداعية التي تركها الراحلون ، والتي جعلتهم موضع التكريم ، ودفعتنا للحظة وفاء وتقدير لهم ولإبداعاتهم التي استحقوا عليها تكريمنا لهم ..
فهي حق لهم بالتأكيد ، وواجب علينا ، بالتأكيد أيضا ..

على الجانب الآخر ، ثمة سؤال :
هل تكريم المبدع في حياته يعفينا من واجب تكريمه بعد رحيله ؟؟
لو أني صاحب الأمر في ذلك ، لجعلت تكريم المبدعين الأحياء مرة في السنة ، والراحلين مرتين ..
وأرى في هذا فرض عين واجبا على الإطلاق ..
وفي كلٍّ ، ليس ذلك بكثير على المبدع الحق ..

ومن يقرأ كتابات تكريمية عن شخصيات راحلة ، وأخرى عن شخصيات على قيد الحياة ، يرَ الفارق " الحراري والعاطفي والأريحيي " الكبير بينهما لصالح الراحلين ..
فإذا كانت الكتابة عن الأحياء محدودة بسقف منخفض ومتنوع ، لانعكاسها عن كثير من المعطيات التي لها علاقة بشخص المبدع وانتماءاته ورؤاه وعلاقاته ومواقفه ، فإن ذلك السقف يكون عاليا جدا ، وقد لا يكون هناك سقف في حال الكتابة عن الراحلين ، لأن الرحيل يُسقط التكليف ، ويزيل كثيرا من الخطوط الحمر ، والأحكام ، ويتجاوزها ...

السبت ـ 28 ـ 01 ـ 2012 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق