هَيْبة
الغياب
لعل أغلب الكتابات والتعليقات التي وقعت عليها هنا وهناك ، تتفق على ضرورة وأهمية تكريم المبدعين في حياتهم ، وليس بعد رحيلهم ، كون
تكريم المبدع قبل رحيله ، يعني اعترافا صريحا من المجتمع بأهمية مساهماته وإبداعه
، ويمنحه مزيدا من الإصرار على التجلي والعطاء ، ويُشعره بأنه ساهم في وضع لبنة في
الصرح ..
وهذا ـ ربما ـ أغلى ما يناله
المُكرَّمون الأحياء من مجتمعهم ..
ومن حيث المبدأ ، أنا من دعاة ومؤيدي
ذاك الرأي ..
( لكن الخشية أن يقوم المبدع بالتكويع
بعد تكريمه ، كما حصل مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ، مثلا ) ..
وهنا سأناقشه من زاوية أخرى ، وتحديدا ،
فيما يختص بـ ( شخصية المكرَّم في الكتابات التكريمية ) ..
لا شك أن لتكريم المبدعين آثارا هامة ،
حين يُكرَّم المبدع وهو في أوج حياته وعطائه ..
فذاك له متعته وأهدافه الإنسانية
النبيلة المطبوعة بالتقدير الرسمي والاجتماعي والثقافي ، من جهة ، وله نتائجه
الإيجابية على المكرَّمين وأحوالهم بمختلف وجوهها ، من جهة ثانية ..
وبعيدا عن تلك الآثار ، فإنه إذا حضرنا
حفل تكريم مبدع على قيد الحياة ، لوجدنا حفل التكريم كـ "حفل التأبين "
..
إذ تتخذ الكلمات طابع " الرثاء المسبق
" الذي يستدر دموع المستمعين ، لكثرة ما يُدعى له بدوام الصحة وطول العمر ،
حتى تتكأكأ الآهات والأوجاع ، فيشعر المُكرَّم بدنو الأجل ، وبأنه " قاب
قوسين أو أدنى " من حافة قبره ..
ونراه يعبر عن سعادته بقوله : "
لو مت الآن سأكون مرتاحا بعد تكريمكم هذا " ..
وإذا كان المكرَّم راحلا ، صار حفل
التكريم أقرب إلى احتفالية تحوّل المكرّم إلى شخصية أخرى لا يعرفها أقرانه ولا
أصحابه ولا أهله ..
ويمكن وصف بعض كلمات التكريم عامة ، بأنها
موضوعية ، لكنها لا تخلو من التحيز الشخصي أو العاطفي ، فيما بعضها الآخر ، يكون ذا
طابع شخصي أو عاطفي ، لكنه أيضا ، ليس بعيدا عن الموضوعية ..
وقد وجدت أن " هيبة الغياب "
تمنحني أريحية أكثر في استكناه المكنون والزاد الموضوعيين ، لدمجهما في الإطار
الودي أو العاطفي أو الحميمي ، وصولا لحالة من الألق المتوهج ، الذي يُضاف للشخصية
الراحلة ، فتجعلها أكثر وضاءة وحضورا وتأثيرا في الزمان والمكان ..
ووجدت ـ يقينا ـ أن الغياب له " هيبته
" الحقيقية التي تجعلنا نقشعر شوقا ومودّة لأولئك الراحلين ، بعد أن بتنا
متأكدين من غيابهم ، ومستسلمين له ..
وقد تنمو هذه الهيبة باضطراد أكثر ،
وبتأثير أكبر ، من حالة " الهيبة " التي نلمس إشعاعها من " حضور
" شخصيات موجودة بيننا ..
ثم ، إني أرى في تكريم الراحلين نوعا
من " الرثاء الشجي " ـ إذا صح التعبير ـ المفعم بأطايب الآثار الإبداعية
التي تركها الراحلون ، والتي جعلتهم موضع التكريم ، ودفعتنا للحظة وفاء وتقدير لهم
ولإبداعاتهم التي استحقوا عليها تكريمنا لهم ..
فهي حق لهم بالتأكيد ، وواجب علينا ،
بالتأكيد أيضا ..
على الجانب الآخر ، ثمة سؤال :
هل تكريم المبدع في حياته يعفينا من
واجب تكريمه بعد رحيله ؟؟
لو أني صاحب الأمر في ذلك ، لجعلت تكريم
المبدعين الأحياء مرة في السنة ، والراحلين مرتين ..
وأرى في هذا فرض عين واجبا على الإطلاق
..
وفي كلٍّ ، ليس ذلك بكثير على المبدع
الحق ..
ومن يقرأ كتابات تكريمية عن شخصيات راحلة
، وأخرى عن شخصيات على قيد الحياة ، يرَ الفارق " الحراري والعاطفي والأريحيي
" الكبير بينهما لصالح الراحلين ..
فإذا كانت الكتابة عن الأحياء محدودة
بسقف منخفض ومتنوع ، لانعكاسها عن كثير من المعطيات التي لها علاقة بشخص المبدع
وانتماءاته ورؤاه وعلاقاته ومواقفه ، فإن ذلك السقف يكون عاليا جدا ، وقد لا يكون
هناك سقف في حال الكتابة عن الراحلين ، لأن الرحيل يُسقط التكليف ، ويزيل كثيرا من
الخطوط الحمر ، والأحكام ، ويتجاوزها ...
السبت ـ 28 ـ 01 ـ 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق