الأحد، 15 يناير 2012

الحلاق


الحلاق

( ما كنت راغبا في نشر هذه القصة ، لولا بقية من ذكرى ماثلة لدى بعض من حضروا إلقاءها في حينه .. فلهم التحية . ) ..

قد لا يتصور أحد منكم كم جهدت حتى اهتديت إلى هذا الحلاق ، الذي دأب على قص شعري منذ دخلت دكانه للمرة الأولى قبل سنين ..
ولا بد من أن يخطر ببالكم سؤال : من قصّ لكَ شعرك قبله ؟
في الواقع ، يحق لكم أن تتساءلوا .. لكني ، وقبل أن أجيب ، أحب أن أؤكد لكم أنني لست مسؤولا عن هذه العملية بقدر مسؤولية حلاقي الأول ، ذاك الذي كانت دكانه قريبة من بيتنا ، وفيها كرسي وحيد ، وكنت تعرفت عليه عندما كان أجيرا في دكان أوسع وأكبر وأفضل من دكانه هذه ، وهي أقرب لبيتنا أيضا ..
ثم ، وكما قال : مَنَّ الله عليه ، فاكتراها ووضع فيها مستلزمات المصلحة وأدواتها ..
ولأن " حج غسان " بارع في فن الحلاقة " الشبابية " ، فقد انتقل إليه معظم زبائن معلمه .. وبالطبع ، كنت واحدا من هؤلاء ، وعلاقتي به مميزة عن زبائنه الآخرين ..
فثمة أمور مشتركة كثيرة بيننا ، تشدني لدكانه ، لنتبادل الأحاديث ريثما يأتي دوري .. وأحيانا أزوره قبل أن يطول شعري ، فيعرف أنني قادم لأسمع حكاياته وقصصه الجديدة ..
كانت يداه تحركان المقص والمشط ببهلوانية فريدة ، تذكـّر بالسّوّاس الذي يرقـّص طاسات السوس بين يديه وفي الهواء ..
أما حديثه الدائم والمتصل والمتجدد ، فهو عن جلسات السحر والسحرة والأحجبة وشيوخ الصنعة ومريديهم وتابعيهم ، مرورا بالأبخرة المستعملة في تلك الجلسات ، وأنواعها ومصادرها الهندية واليمنية والحجازية والمغربية ...
إضافة إلى طرق وأوقات استعمالها وفوائدها ، وما يتصل منها بالحالات الخاصة التي رآها أو سمع عنها ، وغالبا ما تكون ذات منشأ أنثوي ماجن ، رغم كونه حاجّا للديار المقدسة منذ أن كان في الثانية والعشرين ..
وقد زار تلك الديار ـ كما أفصح لي هامسا ـ بغية الاجتماع بسَحَرةٍ من الهند والمغرب ليتتلمذ عليهم ..
ولا أكتمكم سرًّا ، أني كنت أوقّـّت زيارتي له بين صلاتي الظهر والعصر ، حيث يندر وجود الزبائن ، فنأخذ راحتنا بالحديث ، وتطول مدة حلاقة شعري أكثر من ساعة ، فيما لا تتجاوز ربع هذه المدة في أوقات أخرى ..
وقد اصطحبني مرة إلى بيت أحد شيوخه في حي المغاير ، حيث تركت أعمال فتح الشارع الجديد من بيته غرفة واحدة .. وكان الغبار الأبيض يغلف كل الأشياء والمخلوقات الأخرى ، وبدا الشيخ هيكلا عظميا مرعبا ، كمن خرج للتو من قبره ، وجلس بين أكوام من القمامة الرثة .. وكان حج غسان يضع فمه في أذنه ليسمعه ، وبمبادرة لم أطلبها ، طلب من الشيخ ـ بإجلال واحترام كبيرين ـ أن يكتب لي حجابا " لأغدو وجيها أينما ذهبت ، وليساعدني على قضاء حاجات الناس " .. ودون أن يلتفت إلي ، مد حج غسان يده تحت الوسادة ، فأخذ قلما وبقية من دفتر ، وبدأ بكتابة ما يمليه شيخه عليه ..

وطيلة السنوات الست التي ترددت خلالها على دكانه ، كان حج غسان دائم الكلام عن طموحات تفوق حجمه وإمكانياته ، لأنه يرى أن : المشط والمقص لا يطعمان إلا الخبز الحاف .. لذا فهو بصدد اختراع نوع جديد من العطور ، وسيسجله كماركة يحظر تقليدها ، وسيبيعها في الجملة بليرتين كاملتين ، مما سيحقق له ربحا وفيرا .. وسيعتمد في توزيعها على وكلاء في جميع المحافظات ..
وحين نظر في وجهي قائلا : نعيما ، رأى ضحكتي الساخرة وأنا أدس في يده ليرتين ، فابتلع الموقف ، وقال : ابحث عن حلاق جديد لك ، فقد لا تراني هنا في المرة القادمة ..
وقد فاجأني صدقه هذه المرة على غير العادة طيلة السنوات السابقة ، إذ وجدت ورقة ملصقة على باب الدكان تقول :
المحل مغلق إلى إشعار آخر بسبب السفر ..
وهكذا طرأ تحول جديد وهام ، فصار ما بعد ذاك الإعلان مختلفا عما قبله .. وصار من المحتم علي أن أجدّ في البحث عن حلاق آخر تتوفر فيه بعض الميزات التي تلائمني ، وأهمها : السرعة والمهارة ، والتناسب بين جيبي والتعرفة ..
فمن أسوأ المعاناة ، عدم وجود تسعيرة في دكاكين الحلاقين ، وهي حالة تذكرني بحكاية رواها لي أبي ، قال : دخل رجل بسيط دكان حلاق ، فلم يكترث الحلاق بزبونه ، وقص له شعره بكثير من الاستهتار ، ومع ذلك ، نقده الرجل ليرة كاملة أجرا له .. فندم الحلاق على سوء تصرفه مع هذا الرجل الذي منحه أكثر مما يمنحه عشرة ممن يهتم بهم .. ولما عاد الرجل بعد مدة ، اهتم الحلاق به ، ولاطفه وتأنق في قص شعره ، فنقده ربع ليرة فقط ..
تعجب الحلاق واندهش ، فقال له الرجل وهو ينصرف بزهو : هذا الأجر لتلك الحلاقة ، وذاك الأجر لهذه الحلاقة ..
ومن يومها ، بدأت أتقصى ألا أقع فيما وقع فيه الرجل ..
إلى أن وجدت نفسي داخل دكان دلني عليها أحد معارفي ..
كان في الدكان رجل أربعيني ، وأجير شاب .. رحبا بي ، واندفع الأجير نحوي وهو يومئ إلى أحد الكرسيين ، ثم تقدم المعلم مني وهمس في أذني كمن يعرفني منذ دهر :
كيف الصحة أستاذ ؟
أجبته : الحمد لله ..
قال : تُخَفـِّف ؟؟
قلت : قليلا ..
وساد صمتٌ تقطعه نغمات المقص ، وحالة من القلق المشروع ، مفادها : التوافق بين الأجر المستحق ومهارة القص ، من جهة ، وبين الأجر التقديري أو الأجر المستحق ، وجيبي ، من جهة أخرى ..
ومما زاد في قلقي ، أنه تركني نهبا لما أنا فيه ، فلم يكلمني ولم يثرثر كعادة الحلاقين .. فأدركت أن هذه ميزة جديدة ، وسيكون لها ثمنها الإضافي في التعرفة ..
ولعل من أشد ما أخشاه أن يرى في مبلغي إجحافا بحقه ، فيعترض عليه أمام الزبائن الذي توافدوا بعدي ..
أو ، ألا تكون فنيته مناسبة لي أو لجيبي ..
وهنا ، سأعود إلى نقطة الصفر ، لأبحث من جديد ، في متاهات أخرى ، عن حلاق آخر .. 
وحين لملم منشفته ، وقال : نعيما أستاذ ، أحسست أني وقعت في الفخ ، وعلي التخلص منه بأي ثمن ..
تحولت إلى مرآة جانبية ، ألقيت نظرة متفحصة على شعري ، فيما لم يكن في جيبي سوى ورقة نقدية واحدة بعشر ليرات ، ناولتها له ، وجمدت في مكاني حين دسها في جيب سترته البيضاء وهو يقول : الله يعوض عليك ..
عشر ليرات ؟!
كدت أصرخ في وجهه لولا أنه أخرج يده من جيب بنطاله مليئة بليرات معدنية ، عرضها علي ، وقال : خذ ما تشاء ..
قلت : بل أعطني ما تشاء ..
فنقدني سبعا وضَعَتْ حدًّا مقبولا لقلقي ..
غمغمت وأنا أتوجه إلى الباب : نعيما مقدما ..

كان ذلك منذ ثلاثين شهرا تقريبا .. وفي طريقي إليه ، كنت أعرّج على دكان حج غسان .. بلا جدوى ..
ومما لفت نظري في حلاقي الأخير هذا ، أنه نادر التكلم مع الجميع ، وأني في كل مرة أزوره ، يطالعني لديه وجه أجير جديد ..
وما أدراني ! ربما يتبدل أكثر من واحد بين الزيارتين ..
وحين أفصحت عن ذلك لأبي اسكندر ، أكد لي ظني ، وقال : منهم الكسول أو الخامل أو السارق أو الجلف ، ومنهم من له رائحة الفم أو عرق الجسم ، ومنهم من لا يحسن تنظيف المحل والاهتمام بالأدوات ، ومنهم من لا يجيد معاملة الزبائن ، ومنهم العنيد والمشاكس والمتعجرف ...
وأكمل بعد أن أشعل سيكارته : ومنهم من أراه مناسبا جدا ، فأدلله وأتركه يستريح على حسابي ، ومع ذلك ، ينصرف هاربا في أول فرصة ..
قلت : أيكون أجرهم قليلا ؟ قال : بعضهم يطمع في ثلث غلة المحل ، وهذا مستحيل ..
قلت : لعل ساعات العمل طويلة وشاقة ..
قال : لا ضير في ذلك ما دمنا معا في العمل .. ولا شك أنك ترى لطفي وحسن تصرفي ..
قلت : ما العلة إذن في انصرافهم عنك ؟
فقال ضاحكا : ما أدراك ؟! فقد يكون المحل مسحورا ..
ضحكت من أعماقي ، وعادت بي ذاكرتي إلى حج غسان وطقوسه وتعويذاته ، بينما كان هذا يتكلم بأشياء لم أعِها ، وهو يضحك حينا ، ويكفهر ، ويدخن حينا آخر ..

30ـ حزيران ـ 1977

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق