الحلاق
( ما كنت راغبا في نشر هذه القصة ،
لولا بقية من ذكرى ماثلة لدى بعض من حضروا إلقاءها في حينه .. فلهم التحية . ) ..
قد لا يتصور أحد منكم كم جهدت حتى
اهتديت إلى هذا الحلاق ، الذي دأب على قص شعري منذ دخلت دكانه للمرة الأولى قبل
سنين ..
ولا بد من أن يخطر ببالكم سؤال : من
قصّ لكَ شعرك قبله ؟
في الواقع ، يحق لكم أن تتساءلوا ..
لكني ، وقبل أن أجيب ، أحب أن أؤكد لكم أنني لست مسؤولا عن هذه العملية بقدر
مسؤولية حلاقي الأول ، ذاك الذي كانت دكانه قريبة من بيتنا ، وفيها كرسي وحيد ،
وكنت تعرفت عليه عندما كان أجيرا في دكان أوسع وأكبر وأفضل من دكانه هذه ، وهي
أقرب لبيتنا أيضا ..
ثم ، وكما قال : مَنَّ الله عليه ،
فاكتراها ووضع فيها مستلزمات المصلحة وأدواتها ..
ولأن " حج غسان " بارع في فن
الحلاقة " الشبابية " ، فقد انتقل إليه معظم زبائن معلمه .. وبالطبع ، كنت
واحدا من هؤلاء ، وعلاقتي به مميزة عن زبائنه الآخرين ..
فثمة أمور مشتركة كثيرة بيننا ، تشدني
لدكانه ، لنتبادل الأحاديث ريثما يأتي دوري .. وأحيانا أزوره قبل أن يطول شعري ،
فيعرف أنني قادم لأسمع حكاياته وقصصه الجديدة ..
كانت يداه تحركان المقص والمشط
ببهلوانية فريدة ، تذكـّر بالسّوّاس الذي يرقـّص طاسات السوس بين يديه وفي الهواء
..
أما حديثه الدائم والمتصل والمتجدد ، فهو
عن جلسات السحر والسحرة والأحجبة وشيوخ الصنعة ومريديهم وتابعيهم ، مرورا بالأبخرة
المستعملة في تلك الجلسات ، وأنواعها ومصادرها الهندية واليمنية والحجازية
والمغربية ...
إضافة إلى طرق وأوقات استعمالها
وفوائدها ، وما يتصل منها بالحالات الخاصة التي رآها أو سمع عنها ، وغالبا ما تكون
ذات منشأ أنثوي ماجن ، رغم كونه حاجّا للديار المقدسة منذ أن كان في الثانية
والعشرين ..
وقد زار تلك الديار ـ كما أفصح لي هامسا
ـ بغية الاجتماع بسَحَرةٍ من الهند والمغرب ليتتلمذ عليهم ..
ولا أكتمكم سرًّا ، أني كنت أوقّـّت
زيارتي له بين صلاتي الظهر والعصر ، حيث يندر وجود الزبائن ، فنأخذ راحتنا بالحديث
، وتطول مدة حلاقة شعري أكثر من ساعة ، فيما لا تتجاوز ربع هذه المدة في أوقات أخرى
..
وقد اصطحبني مرة إلى بيت أحد شيوخه في
حي المغاير ، حيث تركت أعمال فتح الشارع الجديد من بيته غرفة واحدة .. وكان الغبار
الأبيض يغلف كل الأشياء والمخلوقات الأخرى ، وبدا الشيخ هيكلا عظميا مرعبا ، كمن
خرج للتو من قبره ، وجلس بين أكوام من القمامة الرثة .. وكان حج غسان يضع فمه في
أذنه ليسمعه ، وبمبادرة لم أطلبها ، طلب من الشيخ ـ بإجلال واحترام كبيرين ـ أن
يكتب لي حجابا " لأغدو وجيها أينما ذهبت ، وليساعدني على قضاء حاجات الناس
" .. ودون أن يلتفت إلي ، مد حج غسان يده تحت الوسادة ، فأخذ قلما وبقية من
دفتر ، وبدأ بكتابة ما يمليه شيخه عليه ..
وطيلة السنوات الست التي ترددت خلالها
على دكانه ، كان حج غسان دائم الكلام عن طموحات تفوق حجمه وإمكانياته ، لأنه يرى
أن : المشط والمقص لا يطعمان إلا الخبز الحاف .. لذا فهو بصدد اختراع نوع جديد من
العطور ، وسيسجله كماركة يحظر تقليدها ، وسيبيعها في الجملة بليرتين كاملتين ، مما
سيحقق له ربحا وفيرا .. وسيعتمد في توزيعها على وكلاء في جميع المحافظات ..
وحين نظر في وجهي قائلا : نعيما ، رأى
ضحكتي الساخرة وأنا أدس في يده ليرتين ، فابتلع الموقف ، وقال : ابحث عن حلاق جديد
لك ، فقد لا تراني هنا في المرة القادمة ..
وقد فاجأني صدقه هذه المرة على غير
العادة طيلة السنوات السابقة ، إذ وجدت ورقة ملصقة على باب الدكان تقول :
المحل مغلق إلى إشعار آخر بسبب السفر
..
وهكذا طرأ تحول جديد وهام ، فصار ما
بعد ذاك الإعلان مختلفا عما قبله .. وصار من المحتم علي أن أجدّ في البحث عن حلاق
آخر تتوفر فيه بعض الميزات التي تلائمني ، وأهمها : السرعة والمهارة ، والتناسب
بين جيبي والتعرفة ..
فمن أسوأ المعاناة ، عدم وجود تسعيرة
في دكاكين الحلاقين ، وهي حالة تذكرني بحكاية رواها لي أبي ، قال : دخل رجل بسيط
دكان حلاق ، فلم يكترث الحلاق بزبونه ، وقص له شعره بكثير من الاستهتار ، ومع ذلك
، نقده الرجل ليرة كاملة أجرا له .. فندم الحلاق على سوء تصرفه مع هذا الرجل الذي
منحه أكثر مما يمنحه عشرة ممن يهتم بهم .. ولما عاد الرجل بعد مدة ، اهتم الحلاق
به ، ولاطفه وتأنق في قص شعره ، فنقده ربع ليرة فقط ..
تعجب الحلاق واندهش ، فقال له الرجل
وهو ينصرف بزهو : هذا الأجر لتلك الحلاقة ، وذاك الأجر لهذه الحلاقة ..
ومن يومها ، بدأت أتقصى ألا أقع فيما
وقع فيه الرجل ..
إلى أن وجدت نفسي داخل دكان دلني عليها
أحد معارفي ..
كان في الدكان رجل أربعيني ، وأجير شاب
.. رحبا بي ، واندفع الأجير نحوي وهو يومئ إلى أحد الكرسيين ، ثم تقدم المعلم مني
وهمس في أذني كمن يعرفني منذ دهر :
كيف الصحة أستاذ ؟
أجبته : الحمد لله ..
قال : تُخَفـِّف ؟؟
قلت : قليلا ..
وساد صمتٌ تقطعه نغمات المقص ، وحالة
من القلق المشروع ، مفادها : التوافق بين الأجر المستحق ومهارة القص ، من جهة ،
وبين الأجر التقديري أو الأجر المستحق ، وجيبي ، من جهة أخرى ..
ومما زاد في قلقي ، أنه تركني نهبا لما
أنا فيه ، فلم يكلمني ولم يثرثر كعادة الحلاقين .. فأدركت أن هذه ميزة جديدة ،
وسيكون لها ثمنها الإضافي في التعرفة ..
ولعل من أشد ما أخشاه أن يرى في مبلغي
إجحافا بحقه ، فيعترض عليه أمام الزبائن الذي توافدوا بعدي ..
أو ، ألا تكون فنيته مناسبة لي أو
لجيبي ..
وهنا ، سأعود إلى نقطة الصفر ، لأبحث
من جديد ، في متاهات أخرى ، عن حلاق آخر ..
وحين لملم منشفته ، وقال : نعيما أستاذ
، أحسست أني وقعت في الفخ ، وعلي التخلص منه بأي ثمن ..
تحولت إلى مرآة جانبية ، ألقيت نظرة
متفحصة على شعري ، فيما لم يكن في جيبي سوى ورقة نقدية واحدة بعشر ليرات ، ناولتها
له ، وجمدت في مكاني حين دسها في جيب سترته البيضاء وهو يقول : الله يعوض عليك ..
عشر ليرات ؟!
كدت أصرخ في وجهه لولا أنه أخرج يده من
جيب بنطاله مليئة بليرات معدنية ، عرضها علي ، وقال : خذ ما تشاء ..
قلت : بل أعطني ما تشاء ..
فنقدني سبعا وضَعَتْ حدًّا مقبولا
لقلقي ..
غمغمت وأنا أتوجه إلى الباب : نعيما
مقدما ..
كان ذلك منذ ثلاثين شهرا تقريبا .. وفي
طريقي إليه ، كنت أعرّج على دكان حج غسان .. بلا جدوى ..
ومما لفت نظري في حلاقي الأخير هذا ، أنه
نادر التكلم مع الجميع ، وأني في كل مرة أزوره ، يطالعني لديه وجه أجير جديد ..
وما أدراني ! ربما يتبدل أكثر من واحد
بين الزيارتين ..
وحين أفصحت عن ذلك لأبي اسكندر ، أكد
لي ظني ، وقال : منهم الكسول أو الخامل أو السارق أو الجلف ، ومنهم من له رائحة الفم
أو عرق الجسم ، ومنهم من لا يحسن تنظيف المحل والاهتمام بالأدوات ، ومنهم من لا
يجيد معاملة الزبائن ، ومنهم العنيد والمشاكس والمتعجرف ...
وأكمل بعد أن أشعل سيكارته : ومنهم من
أراه مناسبا جدا ، فأدلله وأتركه يستريح على حسابي ، ومع ذلك ، ينصرف هاربا في أول
فرصة ..
قلت : أيكون أجرهم قليلا ؟ قال : بعضهم
يطمع في ثلث غلة المحل ، وهذا مستحيل ..
قلت : لعل ساعات العمل طويلة وشاقة ..
قال : لا ضير في ذلك ما دمنا معا في
العمل .. ولا شك أنك ترى لطفي وحسن تصرفي ..
قلت : ما العلة إذن في انصرافهم عنك ؟
فقال ضاحكا : ما أدراك ؟! فقد يكون
المحل مسحورا ..
ضحكت من أعماقي ، وعادت بي ذاكرتي إلى
حج غسان وطقوسه وتعويذاته ، بينما كان هذا يتكلم بأشياء لم أعِها ، وهو يضحك حينا
، ويكفهر ، ويدخن حينا آخر ..
30ـ حزيران ـ 1977
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق