الثلاثاء، 17 يناير 2012

الرأس .. الشوندرة ـ قصة قصيرة


الرأس .. الشوندرة ..

 قف .. جاء صوت صلب : لِمَ تمشي على قدميك ؟!
قلت : لأني لا أستطيع أن أمشي على رأسي ..
قال بغضب : ولِمَ المشي ؟
قلت ببرود : لا أملك جوادا .. ثم ، ألا تراني أعزل إلا من سروالي المدمى ؟
ـ ألم تسمع بالأمر الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر والمشي ؟!
قلت بغيظ مكتوم : يسرني لو تمشي على أربعتك وأمتطي ظهرك ..
ـ ووقح أيضا يا ابن الثعالب !!
كزّ على فكيه وهو يهز رأسه ، ثم أومأ إلى رجل بجانبه ، فناوله لفافة ، فتحها ، ودفعها في وجهي : اقرأ ..
قلت : نسيت الأبجدية بعدما علموني طريقة جديدة للتناسل البشري ..
كـأن كفَّ عفريتٍ صفعَتْ وجهي ..
بصقتُ بعضَ أسناني ..
قال : تتحداني أيها الأرنب ؟!
قلت : إني عاجز حتى عن ذبِّ الذباب عن قفاي ..
تجاهل كلامي ، والتفت إلى الآخر :
أسرعْ إلى مولانا ، وأبلغه ببوادر التمرد التي نلمسها في رعيته ، ولا تعدْ إلا بأمر مبرم .. ثم أشار إلى رقبتي ..
ارتفعت يدي تلقائيا تتحسس موضع إشارته .. هزتني ضحكة سرية ، لعنتُ فيها ما لعنت ، أو ، هكذا خُيِّلَ إلي .. لكن اللكمات قطعت الشك باليقين ، حتى صار رأسي مفلطحا كضفدع نهري خامل ..

2

في قضية هامة ومصيرية كهذه ، ليس ثمة تأخير أو تعقيد في الإجراءات القانونية والدستورية ..
فاستصدروا أمرا يقضي بتقسيم رأسي إلى أربعة أقسام ، كشوندرة مسلوقة ، على أن يُرمى كل جزء في أحد اتجاهات الأرض ، وتترك جثتي للكلاب الضالة المسعورة ..
ضجَّ مجلس الأعيان لهذا التنكيل البشع ، الذي تأباه مواثيق حقوق الإنسان ، وعدّوا ذلك انتهاكا سافرا يجب أم يُحال إلى محكمة العدل الدولية .. لكن أمرا آخر صدر ، فحلّ المشكلة ، وقضى بتقسيم رأسي إلى قسميْن فقط ..
عندئذ ، هللت الحكومة والوجهاء ومجلس الأعيان ، وأرسِلت برقيات تأييد وتبريك ، إلا أن الأمر السامي كان غامضا ككل التشريعات التي يلزمها مذكرات تفسيرية توضيحية ، لأنه لم يُشرْ إلى طريقة التقسيم وشكلها ، فسَرَتْ تكهنات مفادها : أن للسياف حرية انتقاء شكل التقسيم المناسب ، طولانيا ، أو عرضانيا ، أو مائلا ..
وصدر أمر لاحق ، يقضي بتعطيل الدوائر والمؤسسات وجهات الدولة كافة يوم تنفيذ الحكم ، حيث سيحضره المسؤولون والشخصيات الوطنية ، كما سيدعى إليه بعض الضيوف من الدول الشقيقة والصديقة ، ممن يرى المسؤولون ضرورة حضورهم ، تنفيذا لمعاهدات المعاملة بالمثل ..
وستتولى وسائل الإعلام كلها ، بث الوقائع مباشرة على كافة الأقنية العاملة ، إلى بقاع العالم المتخلفة تحديدا ، كي يستفيدوا من خبراتنا وتجاربنا ..
وللحقيقة ، لم أرَ أكثر منهم دقة وانضباطا في مواقيتهم ، والتزامهم الشديد بها .. إذ انتظم الحفل في الموعد المضروب بلا تقديم ولا تأخير ولا اضطراب ..
صُمَّت الآذان بالنشيد الوطني ، ثم بنشيد العدالة ، الذي وُضَع خصيصا لهذه المناسبة ..
ثم قدِّمَت برامج وفقرات فنية منوعة ، ومسابقات تحفيزية ، وسالت أنهار المشروبات ، وتلوّت القامات الرشيقة والكروش المنتفخة على وقع الأنغام الصاخبة والهادئة ..
وعُطّر المكان بأريج الياسمين ..

3
بين فقرتين ، سألني السياف ـ بمنتهى اللباقة والاحترام ـ عن رغبتي الأخيرة ، فقلت : أ واثقٌ أنت من موتي ؟!
قال بهدوء وثقة يطمئنني بهما : لك أن تعتقد بما تشاء .. المهم ، أخبرْني : ما هي رغبتك الأخيرة ؟
قلت : ما دمتَ واثقا من موتي ، فإن رغبتي لا تتعدى أن أعرف سرا شخصيا عنك ، لم تبحْ به بعد ، ولا تتجرأ ..
قال بشيء من النرفزة : ما شأنك أنت بأسراري ؟! إنكَ ميت لا محالة ، فاطلب ما ينفعك أو ينفع عيالك ..
قلت بسخرية : أشكر لك اهتمامك بمنفعتي ..
صمتنا .. حملقت في الوجوه على المنصة هناك .. انتابني شعور تمنيت فيه أن أدمي سراويل كل أولئك .. ماذا يصير لو تحقق ؟!
قال السياف : لأول مرة منذ عشرين سنة ، أشعر أن سيفي سيخونني ..
قلت : لا تبتئس .. سأساعدك في مهمتك ..
صمَتَ .. كان الحفل منشغلا عنا ، والكؤوس تدور بين المدعوين انتظارا للحظة يتوجه فيها الجميع إلى حدّ السيف اللامع دوما ، دونما شهوة ..
قال : لعلنا نواجه معًا مصيرًا سيئا ..
قلت : ليس مصيري سيئا كما تعتقد .. فما وجه السوء في مصيرك ؟؟
قال : اعتادت تلك الرائعة التي تقف إلى يمين مولانا ، أن تستضيفني في سريرها كل ليلتين مرة ، لكن مولاي لا يتركني أهنأ بها فقط .. وأمس ، كدت أقع فريسة في فخ ، لم استطع معرفة صاحبه ، لكني قدرت أن الغيرة بينهما سببٌ أكيد لما حدث لي ، فتراجعت .. ولم تهدأ لي حالٌ بعدها .. انظر إليها ، ترَ الشبق يفيض من عينيها حقدا لا حدود له ..

4

أعلن المنادي ، أن يشرب الحاضرون نخب العدالة التي سينفذ حكمها .. فطلبت أن أشرب العدالة في كأس ، فجاؤوني بها مترعة ، سكبتها في جوفي دفعة واحدة ، ثم قذفت الكأس في الهواء ، ارتفعتْ ، هبطتْ ، اصطادها السياف بضربة شقتها نصفين طولانيين ..
صفقت له الحشود الجماهيرية ، وأعلن المنادي ، أن الوقت قد حان لتنفيذ الحكم ، ثم قال : أعلنْ ـ أيها المحكوم ـ عن رغبتك أمام الملأ ..
قلت بفرح : رغبتي : أن يفعل السياف الآن ، ما لم يستطع أن يفعله في الليلة الفائتة ..
تداخلت الرؤوس متهامسة فوق المنصة ، حتى صاح المنادي : أ تتآمر مع الخونة أيها السياف ؟! .. وأكمل : ننتظر إرادتكم ـ يا مولانا المبجل ـ في أمر هذا السياف ..
ساد صمتٌ مخيف .. ارتعد السياف .. سقط السيف من يده .. اضطربت سيدة السيدات والرجال هناك .. أعلن المنادي أن إرادة مولاهم أمرت بإعدام السياف أيضا ..
صفقت الجماهير .. صارت الفرحة فرحتين .. ركض نحونا سيافٌ آخر وسط هتافات تحيي العدالة والعدل ، وتندد بالخونة والمجرمين المتآمرين ..
انقض السياف بهمة على رأسي ، فقطعه ، ومت في الضربة الأولى ، وحييت في الثانية التي شطرته نصفين ، دون أن يشعروا بذلك ..
لم تقع جثتي أرضا .. وكان في جيبي زجاجة ملأى بنقيع أعشابٍ بريةٍ ، أستعملها لتخثر الدم ، وأحيانا ، لحقنِهِ ..
سكبت في بلعومي جرعة منه ، فتحولت ذراعاي إلى جناحين ضخمين ، رفرفتُ بهما ، فتعلق بي السياف ..
حلقتُ .. قطعتُ رأس السياف الخائن بضربة من جناحي الأيمن .. ألصقت رأسه بجثتي ، وولـَّفت بينهما ، ثم رميت الجثة إلى ذئاب تترصد قطيعا سائبا ، فانقضت عليها ، دسّت أنوفها برهة وتراجعت ، ثم انزوى ذئبان ضخمان ، تشاورا ، وعادا ، فبالا على الجثة ، وبالت بعدهما كل الذئاب تباعا ..
أحسستُ بحزن رأسه على المصير الذي حلَّ بالجثة ، لكني تجاهلت ، وجعلت أحدق فيما يفعلون بأجزاء رأسي ، ومن سينهشها أولا ..

26/03/1983

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق