السبت، 28 يناير 2012

هَيْبة الغياب


هَيْبة الغياب

 لعل أغلب الكتابات والتعليقات التي وقعت عليها هنا وهناك ، تتفق على ضرورة وأهمية تكريم المبدعين في حياتهم ، وليس بعد رحيلهم ، كون تكريم المبدع قبل رحيله ، يعني اعترافا صريحا من المجتمع بأهمية مساهماته وإبداعه ، ويمنحه مزيدا من الإصرار على التجلي والعطاء ، ويُشعره بأنه ساهم في وضع لبنة في الصرح ..
وهذا ـ ربما ـ أغلى ما يناله المُكرَّمون الأحياء من مجتمعهم ..
ومن حيث المبدأ ، أنا من دعاة ومؤيدي ذاك الرأي ..
( لكن الخشية أن يقوم المبدع بالتكويع بعد تكريمه ، كما حصل مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ، مثلا ) ..

وهنا سأناقشه من زاوية أخرى ، وتحديدا ، فيما يختص بـ ( شخصية المكرَّم في الكتابات التكريمية ) ..

لا شك أن لتكريم المبدعين آثارا هامة ، حين يُكرَّم المبدع وهو في أوج حياته وعطائه ..
فذاك له متعته وأهدافه الإنسانية النبيلة المطبوعة بالتقدير الرسمي والاجتماعي والثقافي ، من جهة ، وله نتائجه الإيجابية على المكرَّمين وأحوالهم بمختلف وجوهها ، من جهة ثانية .. 

وبعيدا عن تلك الآثار ، فإنه إذا حضرنا حفل تكريم مبدع على قيد الحياة ، لوجدنا حفل التكريم كـ "حفل التأبين " ..
إذ تتخذ الكلمات طابع " الرثاء المسبق " الذي يستدر دموع المستمعين ، لكثرة ما يُدعى له بدوام الصحة وطول العمر ، حتى تتكأكأ الآهات والأوجاع ، فيشعر المُكرَّم بدنو الأجل ، وبأنه " قاب قوسين أو أدنى " من حافة قبره ..
ونراه يعبر عن سعادته بقوله : " لو مت الآن سأكون مرتاحا بعد تكريمكم هذا " ..

وإذا كان المكرَّم راحلا ، صار حفل التكريم أقرب إلى احتفالية تحوّل المكرّم إلى شخصية أخرى لا يعرفها أقرانه ولا أصحابه ولا أهله ..

ويمكن وصف بعض كلمات التكريم عامة ، بأنها موضوعية ، لكنها لا تخلو من التحيز الشخصي أو العاطفي ، فيما بعضها الآخر ، يكون ذا طابع شخصي أو عاطفي ، لكنه أيضا ، ليس بعيدا عن الموضوعية ..

وقد وجدت أن " هيبة الغياب " تمنحني أريحية أكثر في استكناه المكنون والزاد الموضوعيين ، لدمجهما في الإطار الودي أو العاطفي أو الحميمي ، وصولا لحالة من الألق المتوهج ، الذي يُضاف للشخصية الراحلة ، فتجعلها أكثر وضاءة وحضورا وتأثيرا في الزمان والمكان ..
ووجدت ـ يقينا ـ أن الغياب له " هيبته " الحقيقية التي تجعلنا نقشعر شوقا ومودّة لأولئك الراحلين ، بعد أن بتنا متأكدين من غيابهم ، ومستسلمين له ..
وقد تنمو هذه الهيبة باضطراد أكثر ، وبتأثير أكبر ، من حالة " الهيبة " التي نلمس إشعاعها من " حضور " شخصيات موجودة بيننا ..

ثم ، إني أرى في تكريم الراحلين نوعا من " الرثاء الشجي " ـ إذا صح التعبير ـ المفعم بأطايب الآثار الإبداعية التي تركها الراحلون ، والتي جعلتهم موضع التكريم ، ودفعتنا للحظة وفاء وتقدير لهم ولإبداعاتهم التي استحقوا عليها تكريمنا لهم ..
فهي حق لهم بالتأكيد ، وواجب علينا ، بالتأكيد أيضا ..

على الجانب الآخر ، ثمة سؤال :
هل تكريم المبدع في حياته يعفينا من واجب تكريمه بعد رحيله ؟؟
لو أني صاحب الأمر في ذلك ، لجعلت تكريم المبدعين الأحياء مرة في السنة ، والراحلين مرتين ..
وأرى في هذا فرض عين واجبا على الإطلاق ..
وفي كلٍّ ، ليس ذلك بكثير على المبدع الحق ..

ومن يقرأ كتابات تكريمية عن شخصيات راحلة ، وأخرى عن شخصيات على قيد الحياة ، يرَ الفارق " الحراري والعاطفي والأريحيي " الكبير بينهما لصالح الراحلين ..
فإذا كانت الكتابة عن الأحياء محدودة بسقف منخفض ومتنوع ، لانعكاسها عن كثير من المعطيات التي لها علاقة بشخص المبدع وانتماءاته ورؤاه وعلاقاته ومواقفه ، فإن ذلك السقف يكون عاليا جدا ، وقد لا يكون هناك سقف في حال الكتابة عن الراحلين ، لأن الرحيل يُسقط التكليف ، ويزيل كثيرا من الخطوط الحمر ، والأحكام ، ويتجاوزها ...

السبت ـ 28 ـ 01 ـ 2012 

الخميس، 19 يناير 2012

حلب ـ مطارحات العشاق


حلب ـ مطارحات العشاق  


 كتبتْ لي صديقة عزيزة ، تصبّحُ عليَّ بصباح ، تعرف أني أتشهّاه : 

( صباح الخير ، وصباح جميل من حلب .. كيف حالك ؟
كنت أقرأ للأستاذ وليد إخلاصي ، فوجدت له كلمات يتحدث فيها عن حلب ، أحببت أن أشاركك إياها .. يقول :
" كلما اقتربت منها اشتقت إليها ، أفارقها لكنها لا تفارقني ، وإذ أعود إليها أحبها أكثر ..
وكلما عرفتها أكثر وأكثر ، تبين لي ، أن جهلي بمن أحب يدفعني إلى اكتشافها من جديد ..
والكشف كالفراق .. فيهما ألم ممتع ، ومتعة ليس لها حدود " .. 

أدامكِ الله يا حلب ، أدامك رمزاً تاريخيا عظيما بأبنائه وبحضارته ..
تحيتي إليكَ من حلب وصباحك سعيد دائما ) ..  

كتبت رادًّا :

يا صباحووو ..

في البدء : " كلما " الأستاذ وليد إخلاصي ، ذكرتني بـ " كلما " الشاعر محمود درويش :
( كلما مرّتْ خطايَ على طريق ،
فرّتِ الطرقُ البعيدة والقريبة
كلما آخَيْتُ عاصمة ،
رَمَتـْنِي بالحقيبة ) ..
وبعد ..
كلما اقتربتُ منها ازددتُ عشقا لها .. نعم ..
أفارقها على كرهٍ مني .. ولم تفارقني أبداااا .. نعم ..
أحببتها ، وأحبها ، وأحب من يحبها ، ولن يهدأ حبي ، ولن يمل ، ولن يتقاعد .. نعم ..
لكني أخشى ـ بعد طول الفراق ـ أن تتزيا بما لا يناسب عشقنا ، ولا يحلو به سَهَرُ وسَمَرُ العشاق .. 
أخشى أن تغيّر جلدها ولون عينيها ، وتستعير شَعرا وجدائل ، وتتزين بمساحيق مزيفةٍ ، تشوِّهُ بها خلقتها الربانية البديعة ..
فلا بأس من إعادة الكشف عنها ، لتشخيص آلامها ، ومعاناتها ..
لكن .. عذرا صديقي أبا خالد الإخلاصي ، فأنا لن أباريك ، ولن أستطيع أن أجاريك :
شتان بين الكشف / الاكتشاف ، والفراق ..
ففي " الاكتشاف متعة وتعب " ، لكنهما سرعان ما يزولان أمام الكشف عن أول هبة من التاريخ ، أو أول غنجةٍ وضّاءةٍ لسِفر الحضارة ..
فيما الفراق كله ألمٌ مُمِضّ ، وتقليب مواجع ..
فـ :
لا يعرف الشوقَ إلا من يكابده .. ولا الصبابة إلا من يعانيها

هل ارتوى عاشق من معشوق ؟!
هل يرتوي شاربٌ من ماء البحر ؟!
أنا العاشق الشارب ، وأنتِ البحر وماؤه المَوَّار الفياض ، الذي لا أريد أن أرتوي منه عشقا ..
أنا العاشق ، وأنتِ المعشوقة المستبدة ..
المستبدة / الحانية على المتمرمغين في أحضان عزتكِ وأنفتكِ ..
أنا العاشق الأوديبي ، وأنتِ العَطوفة على أبنائكِ وعشاقكِ وطاعنيكِ وغادريكِ وشاتميكِ ولاعنيكِ وبائعات هواكِ ..
أنا العاشق ، وأنتِ النفورة النافرة من الناكرين الماكرين الجاحدين المتأبلسين ..
وأنتِ الرؤوم لهم رغم اجتثاثهم قلبك ، ورميه وتعفره وتجرثمه والتهابه بالافتئات عليه ، والاستقواء على شرايينه وأوردته وشغافه ..
غفرانكَ اللهم ..   
غفرانكِ أمَّنا .. رحماكِ حبيبتنا ..
لن أرتوي ، ولن يرويني عشقك ..
إنها " حلبي " ..
والسلام ختام ..

الخميس ـ 19/01/2012 



الثلاثاء، 17 يناير 2012

الرأس .. الشوندرة ـ قصة قصيرة


الرأس .. الشوندرة ..

 قف .. جاء صوت صلب : لِمَ تمشي على قدميك ؟!
قلت : لأني لا أستطيع أن أمشي على رأسي ..
قال بغضب : ولِمَ المشي ؟
قلت ببرود : لا أملك جوادا .. ثم ، ألا تراني أعزل إلا من سروالي المدمى ؟
ـ ألم تسمع بالأمر الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر والمشي ؟!
قلت بغيظ مكتوم : يسرني لو تمشي على أربعتك وأمتطي ظهرك ..
ـ ووقح أيضا يا ابن الثعالب !!
كزّ على فكيه وهو يهز رأسه ، ثم أومأ إلى رجل بجانبه ، فناوله لفافة ، فتحها ، ودفعها في وجهي : اقرأ ..
قلت : نسيت الأبجدية بعدما علموني طريقة جديدة للتناسل البشري ..
كـأن كفَّ عفريتٍ صفعَتْ وجهي ..
بصقتُ بعضَ أسناني ..
قال : تتحداني أيها الأرنب ؟!
قلت : إني عاجز حتى عن ذبِّ الذباب عن قفاي ..
تجاهل كلامي ، والتفت إلى الآخر :
أسرعْ إلى مولانا ، وأبلغه ببوادر التمرد التي نلمسها في رعيته ، ولا تعدْ إلا بأمر مبرم .. ثم أشار إلى رقبتي ..
ارتفعت يدي تلقائيا تتحسس موضع إشارته .. هزتني ضحكة سرية ، لعنتُ فيها ما لعنت ، أو ، هكذا خُيِّلَ إلي .. لكن اللكمات قطعت الشك باليقين ، حتى صار رأسي مفلطحا كضفدع نهري خامل ..

2

في قضية هامة ومصيرية كهذه ، ليس ثمة تأخير أو تعقيد في الإجراءات القانونية والدستورية ..
فاستصدروا أمرا يقضي بتقسيم رأسي إلى أربعة أقسام ، كشوندرة مسلوقة ، على أن يُرمى كل جزء في أحد اتجاهات الأرض ، وتترك جثتي للكلاب الضالة المسعورة ..
ضجَّ مجلس الأعيان لهذا التنكيل البشع ، الذي تأباه مواثيق حقوق الإنسان ، وعدّوا ذلك انتهاكا سافرا يجب أم يُحال إلى محكمة العدل الدولية .. لكن أمرا آخر صدر ، فحلّ المشكلة ، وقضى بتقسيم رأسي إلى قسميْن فقط ..
عندئذ ، هللت الحكومة والوجهاء ومجلس الأعيان ، وأرسِلت برقيات تأييد وتبريك ، إلا أن الأمر السامي كان غامضا ككل التشريعات التي يلزمها مذكرات تفسيرية توضيحية ، لأنه لم يُشرْ إلى طريقة التقسيم وشكلها ، فسَرَتْ تكهنات مفادها : أن للسياف حرية انتقاء شكل التقسيم المناسب ، طولانيا ، أو عرضانيا ، أو مائلا ..
وصدر أمر لاحق ، يقضي بتعطيل الدوائر والمؤسسات وجهات الدولة كافة يوم تنفيذ الحكم ، حيث سيحضره المسؤولون والشخصيات الوطنية ، كما سيدعى إليه بعض الضيوف من الدول الشقيقة والصديقة ، ممن يرى المسؤولون ضرورة حضورهم ، تنفيذا لمعاهدات المعاملة بالمثل ..
وستتولى وسائل الإعلام كلها ، بث الوقائع مباشرة على كافة الأقنية العاملة ، إلى بقاع العالم المتخلفة تحديدا ، كي يستفيدوا من خبراتنا وتجاربنا ..
وللحقيقة ، لم أرَ أكثر منهم دقة وانضباطا في مواقيتهم ، والتزامهم الشديد بها .. إذ انتظم الحفل في الموعد المضروب بلا تقديم ولا تأخير ولا اضطراب ..
صُمَّت الآذان بالنشيد الوطني ، ثم بنشيد العدالة ، الذي وُضَع خصيصا لهذه المناسبة ..
ثم قدِّمَت برامج وفقرات فنية منوعة ، ومسابقات تحفيزية ، وسالت أنهار المشروبات ، وتلوّت القامات الرشيقة والكروش المنتفخة على وقع الأنغام الصاخبة والهادئة ..
وعُطّر المكان بأريج الياسمين ..

3
بين فقرتين ، سألني السياف ـ بمنتهى اللباقة والاحترام ـ عن رغبتي الأخيرة ، فقلت : أ واثقٌ أنت من موتي ؟!
قال بهدوء وثقة يطمئنني بهما : لك أن تعتقد بما تشاء .. المهم ، أخبرْني : ما هي رغبتك الأخيرة ؟
قلت : ما دمتَ واثقا من موتي ، فإن رغبتي لا تتعدى أن أعرف سرا شخصيا عنك ، لم تبحْ به بعد ، ولا تتجرأ ..
قال بشيء من النرفزة : ما شأنك أنت بأسراري ؟! إنكَ ميت لا محالة ، فاطلب ما ينفعك أو ينفع عيالك ..
قلت بسخرية : أشكر لك اهتمامك بمنفعتي ..
صمتنا .. حملقت في الوجوه على المنصة هناك .. انتابني شعور تمنيت فيه أن أدمي سراويل كل أولئك .. ماذا يصير لو تحقق ؟!
قال السياف : لأول مرة منذ عشرين سنة ، أشعر أن سيفي سيخونني ..
قلت : لا تبتئس .. سأساعدك في مهمتك ..
صمَتَ .. كان الحفل منشغلا عنا ، والكؤوس تدور بين المدعوين انتظارا للحظة يتوجه فيها الجميع إلى حدّ السيف اللامع دوما ، دونما شهوة ..
قال : لعلنا نواجه معًا مصيرًا سيئا ..
قلت : ليس مصيري سيئا كما تعتقد .. فما وجه السوء في مصيرك ؟؟
قال : اعتادت تلك الرائعة التي تقف إلى يمين مولانا ، أن تستضيفني في سريرها كل ليلتين مرة ، لكن مولاي لا يتركني أهنأ بها فقط .. وأمس ، كدت أقع فريسة في فخ ، لم استطع معرفة صاحبه ، لكني قدرت أن الغيرة بينهما سببٌ أكيد لما حدث لي ، فتراجعت .. ولم تهدأ لي حالٌ بعدها .. انظر إليها ، ترَ الشبق يفيض من عينيها حقدا لا حدود له ..

4

أعلن المنادي ، أن يشرب الحاضرون نخب العدالة التي سينفذ حكمها .. فطلبت أن أشرب العدالة في كأس ، فجاؤوني بها مترعة ، سكبتها في جوفي دفعة واحدة ، ثم قذفت الكأس في الهواء ، ارتفعتْ ، هبطتْ ، اصطادها السياف بضربة شقتها نصفين طولانيين ..
صفقت له الحشود الجماهيرية ، وأعلن المنادي ، أن الوقت قد حان لتنفيذ الحكم ، ثم قال : أعلنْ ـ أيها المحكوم ـ عن رغبتك أمام الملأ ..
قلت بفرح : رغبتي : أن يفعل السياف الآن ، ما لم يستطع أن يفعله في الليلة الفائتة ..
تداخلت الرؤوس متهامسة فوق المنصة ، حتى صاح المنادي : أ تتآمر مع الخونة أيها السياف ؟! .. وأكمل : ننتظر إرادتكم ـ يا مولانا المبجل ـ في أمر هذا السياف ..
ساد صمتٌ مخيف .. ارتعد السياف .. سقط السيف من يده .. اضطربت سيدة السيدات والرجال هناك .. أعلن المنادي أن إرادة مولاهم أمرت بإعدام السياف أيضا ..
صفقت الجماهير .. صارت الفرحة فرحتين .. ركض نحونا سيافٌ آخر وسط هتافات تحيي العدالة والعدل ، وتندد بالخونة والمجرمين المتآمرين ..
انقض السياف بهمة على رأسي ، فقطعه ، ومت في الضربة الأولى ، وحييت في الثانية التي شطرته نصفين ، دون أن يشعروا بذلك ..
لم تقع جثتي أرضا .. وكان في جيبي زجاجة ملأى بنقيع أعشابٍ بريةٍ ، أستعملها لتخثر الدم ، وأحيانا ، لحقنِهِ ..
سكبت في بلعومي جرعة منه ، فتحولت ذراعاي إلى جناحين ضخمين ، رفرفتُ بهما ، فتعلق بي السياف ..
حلقتُ .. قطعتُ رأس السياف الخائن بضربة من جناحي الأيمن .. ألصقت رأسه بجثتي ، وولـَّفت بينهما ، ثم رميت الجثة إلى ذئاب تترصد قطيعا سائبا ، فانقضت عليها ، دسّت أنوفها برهة وتراجعت ، ثم انزوى ذئبان ضخمان ، تشاورا ، وعادا ، فبالا على الجثة ، وبالت بعدهما كل الذئاب تباعا ..
أحسستُ بحزن رأسه على المصير الذي حلَّ بالجثة ، لكني تجاهلت ، وجعلت أحدق فيما يفعلون بأجزاء رأسي ، ومن سينهشها أولا ..

26/03/1983

الأحد، 15 يناير 2012

الحلاق


الحلاق

( ما كنت راغبا في نشر هذه القصة ، لولا بقية من ذكرى ماثلة لدى بعض من حضروا إلقاءها في حينه .. فلهم التحية . ) ..

قد لا يتصور أحد منكم كم جهدت حتى اهتديت إلى هذا الحلاق ، الذي دأب على قص شعري منذ دخلت دكانه للمرة الأولى قبل سنين ..
ولا بد من أن يخطر ببالكم سؤال : من قصّ لكَ شعرك قبله ؟
في الواقع ، يحق لكم أن تتساءلوا .. لكني ، وقبل أن أجيب ، أحب أن أؤكد لكم أنني لست مسؤولا عن هذه العملية بقدر مسؤولية حلاقي الأول ، ذاك الذي كانت دكانه قريبة من بيتنا ، وفيها كرسي وحيد ، وكنت تعرفت عليه عندما كان أجيرا في دكان أوسع وأكبر وأفضل من دكانه هذه ، وهي أقرب لبيتنا أيضا ..
ثم ، وكما قال : مَنَّ الله عليه ، فاكتراها ووضع فيها مستلزمات المصلحة وأدواتها ..
ولأن " حج غسان " بارع في فن الحلاقة " الشبابية " ، فقد انتقل إليه معظم زبائن معلمه .. وبالطبع ، كنت واحدا من هؤلاء ، وعلاقتي به مميزة عن زبائنه الآخرين ..
فثمة أمور مشتركة كثيرة بيننا ، تشدني لدكانه ، لنتبادل الأحاديث ريثما يأتي دوري .. وأحيانا أزوره قبل أن يطول شعري ، فيعرف أنني قادم لأسمع حكاياته وقصصه الجديدة ..
كانت يداه تحركان المقص والمشط ببهلوانية فريدة ، تذكـّر بالسّوّاس الذي يرقـّص طاسات السوس بين يديه وفي الهواء ..
أما حديثه الدائم والمتصل والمتجدد ، فهو عن جلسات السحر والسحرة والأحجبة وشيوخ الصنعة ومريديهم وتابعيهم ، مرورا بالأبخرة المستعملة في تلك الجلسات ، وأنواعها ومصادرها الهندية واليمنية والحجازية والمغربية ...
إضافة إلى طرق وأوقات استعمالها وفوائدها ، وما يتصل منها بالحالات الخاصة التي رآها أو سمع عنها ، وغالبا ما تكون ذات منشأ أنثوي ماجن ، رغم كونه حاجّا للديار المقدسة منذ أن كان في الثانية والعشرين ..
وقد زار تلك الديار ـ كما أفصح لي هامسا ـ بغية الاجتماع بسَحَرةٍ من الهند والمغرب ليتتلمذ عليهم ..
ولا أكتمكم سرًّا ، أني كنت أوقّـّت زيارتي له بين صلاتي الظهر والعصر ، حيث يندر وجود الزبائن ، فنأخذ راحتنا بالحديث ، وتطول مدة حلاقة شعري أكثر من ساعة ، فيما لا تتجاوز ربع هذه المدة في أوقات أخرى ..
وقد اصطحبني مرة إلى بيت أحد شيوخه في حي المغاير ، حيث تركت أعمال فتح الشارع الجديد من بيته غرفة واحدة .. وكان الغبار الأبيض يغلف كل الأشياء والمخلوقات الأخرى ، وبدا الشيخ هيكلا عظميا مرعبا ، كمن خرج للتو من قبره ، وجلس بين أكوام من القمامة الرثة .. وكان حج غسان يضع فمه في أذنه ليسمعه ، وبمبادرة لم أطلبها ، طلب من الشيخ ـ بإجلال واحترام كبيرين ـ أن يكتب لي حجابا " لأغدو وجيها أينما ذهبت ، وليساعدني على قضاء حاجات الناس " .. ودون أن يلتفت إلي ، مد حج غسان يده تحت الوسادة ، فأخذ قلما وبقية من دفتر ، وبدأ بكتابة ما يمليه شيخه عليه ..

وطيلة السنوات الست التي ترددت خلالها على دكانه ، كان حج غسان دائم الكلام عن طموحات تفوق حجمه وإمكانياته ، لأنه يرى أن : المشط والمقص لا يطعمان إلا الخبز الحاف .. لذا فهو بصدد اختراع نوع جديد من العطور ، وسيسجله كماركة يحظر تقليدها ، وسيبيعها في الجملة بليرتين كاملتين ، مما سيحقق له ربحا وفيرا .. وسيعتمد في توزيعها على وكلاء في جميع المحافظات ..
وحين نظر في وجهي قائلا : نعيما ، رأى ضحكتي الساخرة وأنا أدس في يده ليرتين ، فابتلع الموقف ، وقال : ابحث عن حلاق جديد لك ، فقد لا تراني هنا في المرة القادمة ..
وقد فاجأني صدقه هذه المرة على غير العادة طيلة السنوات السابقة ، إذ وجدت ورقة ملصقة على باب الدكان تقول :
المحل مغلق إلى إشعار آخر بسبب السفر ..
وهكذا طرأ تحول جديد وهام ، فصار ما بعد ذاك الإعلان مختلفا عما قبله .. وصار من المحتم علي أن أجدّ في البحث عن حلاق آخر تتوفر فيه بعض الميزات التي تلائمني ، وأهمها : السرعة والمهارة ، والتناسب بين جيبي والتعرفة ..
فمن أسوأ المعاناة ، عدم وجود تسعيرة في دكاكين الحلاقين ، وهي حالة تذكرني بحكاية رواها لي أبي ، قال : دخل رجل بسيط دكان حلاق ، فلم يكترث الحلاق بزبونه ، وقص له شعره بكثير من الاستهتار ، ومع ذلك ، نقده الرجل ليرة كاملة أجرا له .. فندم الحلاق على سوء تصرفه مع هذا الرجل الذي منحه أكثر مما يمنحه عشرة ممن يهتم بهم .. ولما عاد الرجل بعد مدة ، اهتم الحلاق به ، ولاطفه وتأنق في قص شعره ، فنقده ربع ليرة فقط ..
تعجب الحلاق واندهش ، فقال له الرجل وهو ينصرف بزهو : هذا الأجر لتلك الحلاقة ، وذاك الأجر لهذه الحلاقة ..
ومن يومها ، بدأت أتقصى ألا أقع فيما وقع فيه الرجل ..
إلى أن وجدت نفسي داخل دكان دلني عليها أحد معارفي ..
كان في الدكان رجل أربعيني ، وأجير شاب .. رحبا بي ، واندفع الأجير نحوي وهو يومئ إلى أحد الكرسيين ، ثم تقدم المعلم مني وهمس في أذني كمن يعرفني منذ دهر :
كيف الصحة أستاذ ؟
أجبته : الحمد لله ..
قال : تُخَفـِّف ؟؟
قلت : قليلا ..
وساد صمتٌ تقطعه نغمات المقص ، وحالة من القلق المشروع ، مفادها : التوافق بين الأجر المستحق ومهارة القص ، من جهة ، وبين الأجر التقديري أو الأجر المستحق ، وجيبي ، من جهة أخرى ..
ومما زاد في قلقي ، أنه تركني نهبا لما أنا فيه ، فلم يكلمني ولم يثرثر كعادة الحلاقين .. فأدركت أن هذه ميزة جديدة ، وسيكون لها ثمنها الإضافي في التعرفة ..
ولعل من أشد ما أخشاه أن يرى في مبلغي إجحافا بحقه ، فيعترض عليه أمام الزبائن الذي توافدوا بعدي ..
أو ، ألا تكون فنيته مناسبة لي أو لجيبي ..
وهنا ، سأعود إلى نقطة الصفر ، لأبحث من جديد ، في متاهات أخرى ، عن حلاق آخر .. 
وحين لملم منشفته ، وقال : نعيما أستاذ ، أحسست أني وقعت في الفخ ، وعلي التخلص منه بأي ثمن ..
تحولت إلى مرآة جانبية ، ألقيت نظرة متفحصة على شعري ، فيما لم يكن في جيبي سوى ورقة نقدية واحدة بعشر ليرات ، ناولتها له ، وجمدت في مكاني حين دسها في جيب سترته البيضاء وهو يقول : الله يعوض عليك ..
عشر ليرات ؟!
كدت أصرخ في وجهه لولا أنه أخرج يده من جيب بنطاله مليئة بليرات معدنية ، عرضها علي ، وقال : خذ ما تشاء ..
قلت : بل أعطني ما تشاء ..
فنقدني سبعا وضَعَتْ حدًّا مقبولا لقلقي ..
غمغمت وأنا أتوجه إلى الباب : نعيما مقدما ..

كان ذلك منذ ثلاثين شهرا تقريبا .. وفي طريقي إليه ، كنت أعرّج على دكان حج غسان .. بلا جدوى ..
ومما لفت نظري في حلاقي الأخير هذا ، أنه نادر التكلم مع الجميع ، وأني في كل مرة أزوره ، يطالعني لديه وجه أجير جديد ..
وما أدراني ! ربما يتبدل أكثر من واحد بين الزيارتين ..
وحين أفصحت عن ذلك لأبي اسكندر ، أكد لي ظني ، وقال : منهم الكسول أو الخامل أو السارق أو الجلف ، ومنهم من له رائحة الفم أو عرق الجسم ، ومنهم من لا يحسن تنظيف المحل والاهتمام بالأدوات ، ومنهم من لا يجيد معاملة الزبائن ، ومنهم العنيد والمشاكس والمتعجرف ...
وأكمل بعد أن أشعل سيكارته : ومنهم من أراه مناسبا جدا ، فأدلله وأتركه يستريح على حسابي ، ومع ذلك ، ينصرف هاربا في أول فرصة ..
قلت : أيكون أجرهم قليلا ؟ قال : بعضهم يطمع في ثلث غلة المحل ، وهذا مستحيل ..
قلت : لعل ساعات العمل طويلة وشاقة ..
قال : لا ضير في ذلك ما دمنا معا في العمل .. ولا شك أنك ترى لطفي وحسن تصرفي ..
قلت : ما العلة إذن في انصرافهم عنك ؟
فقال ضاحكا : ما أدراك ؟! فقد يكون المحل مسحورا ..
ضحكت من أعماقي ، وعادت بي ذاكرتي إلى حج غسان وطقوسه وتعويذاته ، بينما كان هذا يتكلم بأشياء لم أعِها ، وهو يضحك حينا ، ويكفهر ، ويدخن حينا آخر ..

30ـ حزيران ـ 1977