في نهاية المطاف
في نهاية
المطاف :
هو حصار
قتل ، وفتنة طائفية بامتياز ..
إنه حصار
فئة كثيرة لفئة قليلة ، استهدفوا فيه أكثر من خمسين ألف مواطن ، كنا قبل بضعة شهور
مضت ، نتعايش معا بأمان ومحبة وطمأنينة وسلام ..
إنه حصار يستهدفهم
في وجودهم ، كيانا وتعايشا ، أرضا وحجرا وبشرا ..
إنه يستهدف
كل أنواع وأشكال الغذاء ، من الطحين ورغيف الخبز إلى ربطة البقدونس وحبة العنب ،
إلى المحروقات والغاز المنزلي والأدوات الضرورية الأخرى لمواجهة أشهر الشتاء
القادمة ..
كما يستهدف
كل أنواع الدواء والعلاج ، ومراجعة المستشفيات للأمراض السارية والمستعصية ،
وللولادات المتعثرة ، وللأطفال والكبار ، والمسنين المحتاجين لأدوية وعلاجات خاصة
لا توجد غير في مستشفيات المدينة ..
وقد نتج
عنه كثير من الحالات الصعبة إنسانيا ، إضافة إلى عدد من الوفيات التي حدثت كنتيجة حتمية
طبيعية له ..
ومن لم
يُقتَلْ بالرصاص ، أو من التعذيب بعد الخطف ، مات بالحصار ..
إنه شكل من
أشكال القتل الجماعي في أبشع صوره ، تمارسه مجموعات ، امتهنت الخطف والسمسرة
بالفدية وبأرواح المواطنين الأبرياء وعواطفهم وإنسانيتهم وكراماتهم ، كما انتهجت القتل
والترويع وقطع الأوصال والطرق والأرزاق والعمل والغذاء والدواء والماء والكهرباء
.. وحتى الهواء ..
جريرتهم وجريمتهم
أنهم خُلقوا من هذه الأرض ، وفوقها ، وعاشوا من ترابها وخيراتها ، وتقاسموا مع
جميع أهليها : الحلوة والمرة وحبة الدواء وكسرة الخبز وبئر الماء ومقعد الدراسة
وكل مراسم الأفراح والأتراح ، في السراء والضراء ..
فصدق في
فِعلتهم قول الشاعر :
وظلم ذوي
القربى أشد مضاضة
على النفس
من وقع الحسام المهند
إن أولئك المنفِّذين
، كرّسوا حصارهم لبقعة سكانية ملونة بلون سياسي لا " يروق " لهم ، وهو
في نفس الوقت ، لجزء من طائفة لا تنتمي لأيديولوجيتهم الدينية أيضا ، تحقيقا
لإرادتهم في كسر إرادة من يخالفهم الرأي أو العقيدة ..
ويسمونها
" حرية " .. ويذبحون مع التكبير والتهليل ..
ومن وراء
الحصار ، وإمعانا به ، عقد هؤلاء المنفذون " الثورجيون " تحالفاتٍ مع
بعض الجيران ، تعاكس السيرورة التاريخية لأهالي المنطقة وسكانها بعد طول تعايش
ووئام .. وهم بذلك ، يزيدون في هواجس المحاصَرين ومخاوفهم على مستقبل أمنهم
وحياتهم ووجودهم ، من جهة ، ويوضحون لهم ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ صورة الحياة
المقبلة لتكوين المنطقة ، ويكرسون صورتها المستقبلية الإلغائية المرعبة ، من جهة
أخرى ..
إذن ، هو حصار
مزدوج ، أرادوه بين فكي كماشة ، عن سابق إرادة وتصور وتصميم ، وتم لهم ذلك ، حين حشروا
المنطقة في طريق ذي اتجاه واحد وحصري لا سواه ، وأجبروها على الاستسلام لمقولة
طارق بن زياد : ( العدو من أمامكم والبحر من ورائكم ، فأين المفر ؟! ) ..
بهذا ، تمارس
بعض الأحزاب الكردية سلوكا خطيرا ، يكشف عن قصور في الرؤيا للحصول على منافع
مصلحية ضيقة جدا ، هي أدنى وأقل كثيرا من التوجه النفعي الحقيقي ، مما سيولد
انعكاسات سيئة على المنطقة وتعايشها السابق الطويل ، واللاحق للحاضر الصعب القاسي
، وللمستقبل القاتم أيضا .
وما تتعلل
به تلك الأحزاب من " حياد " ـ سواء كانت تدري أو لا تدري ـ ما هو في
حقيقة المسألة إلا إمعان جائر في تشديد الحصار لصالح العدو المشترك ( تركيا ) ..
فالعصابات
المسلحة هي ـ في المحصلة الواقعية على الأرض ـ أدوات تركية ، بينما ، المعروف
والشائع ، أن الأحزاب الكردية تعادي الأتراك ، فكيف لها أن تسير في نهجهم بما يخدم
مصالح هؤلاء الأعداء ..
وكيف
تتوافق تلك التنظيمات مع عملاء الأتراك ضد المنطقة ، بذريعة " الحياد " الوهمية
؟!
وأي "
حياد " هذا ؟!
وما هو
الثمن ؟!
وما هي
النتائج المترتبة ؟!
ولماذا
تناست أو تجاهلت تلك التنظيمات أن صديق عدوها لا يمكن أن يكون صديقها ؟!
إن حصول
بعض التجاوزات التكتيكية من هنا وهناك ، لا يجب أن يحرف دفة العداوة التاريخية
الإستراتيجية وبوصلتها عن مسارها الصحيح ، لصالح أهداف مؤقتة مرسومة بقليل من
الحنكة وكثير من السطحية ..
ومن غير
المؤمل أن يقف الصديق التاريخي مع العدو التاريخي ضد الصديق التاريخي ، لمجرد
مقولة " الحياد " غير الصحيحة في أساسها ولا في توقيتها ولا في نتائجها ولا
في مسوغاتها الشكلية أو الموضوعية ..
فهل وَعَتْ
وأدركت تلك التنظيمات نتائجَ تحالفاتها على حاضرها ومستقبلها ؟!
وكذلك على
علاقتها ببقية التنظيمات الكردية التي ما تزال تناصب الحكومة التركية وحلفاءَها
عداءَها التاريخي ؟!
خاصة ، في
ظل استمرار النهج التركي العدواني ضدها ، واستمرار ما تشنه الحكومة التركية من حرب
شعواء عليهم ؟!
إن قراءة
متأنية عقلية واعية لجغرافيا المنطقة سياسيا وبشريا وإثنيا وعرقيا ، تحتم على
الجميع تدارك التصرفات المتهورة لخروج أبناء المنطقة الحقيقيين بأقل الخسائر ،
وعلى كافة الصعد ، تفويتا لمخططات المتآمرين العابثين بأمن الوطن عموما ومنطقتنا
خصوصا ..
إن قرونا
من الوئام والسلام والعيش المشترك ، تستحق منا أن نكثف جهودنا ، لإيصال المركب
الذي يجمعنا ويحملنا جميعا ، إلى شاطئ الأمان ، قبل أن يُغرِقنا الآخرون بمخاضاتٍ
وزواريبَ لا قِبَلَ لأحدٍ منا بعبورها سالما آمنا ..
إن علاقات
كثيرة ، اجتماعية وعائلية وفكرية ، ربطت ـ وما تزال ـ بين أبناء المنطقة عبر
تاريخها الطويل المشترك ، جديرة أن تمنحنا القدرة على تجاوز الصغائر والتكتيكات
الضيقة ، من أجل خير ومستقبل أبنائنا وأسرنا وروابطنا الأخوية المتينة التي يجب أن
تكون فوق كل المحن والصعاب ، رغم كل القوى المتربصة بنا شرًّا ..
إن التسامح
يزيل الضغائن ، ويحقن الدماء ، ويصفّي النفوس ، ويبيّض القلوب .. وأنا أدعو الجميع
للإيمان به وانتهاجه سبيلا للخلاص ، ونهجا للأمان ..
كما أن
الحوار الهادئ المتزن ، هو السبيل الأوحد الذي يُوصِل كل ذي حق لحقه ، وهو الطريق
الذي يجب أن نسعى إليه جميعا لنجنب منطقتنا وأهالينا كلّ ما يريده الخصوم قبل
الأعداء ..
وكلنا
نحتاج ذلك ، كحاجتنا إلى الهواء المشترك والعيش المشترك والحاضر المشرك والمستقبل
المشترك ..
الإثنين ـ
17/09/2012
جميل جداً ما تكتبين اثناء قرائتي لمقالاتك تعايشت فيها وتغلغلت فيها ثمة شيء من الحزن والحنين والمشاعر المختلطة تكمن بين الكلمات كم منت أتمنى لو اعرف من انت
ردحذف