الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

دمشق ـ دبي ـ 1


دمشق ـ دبي ـ 1




 إحدى أحدث الطائرات التابعة لشركة طيران الإمارات ، أقلعت بنا من مطار دمشق ، إلى مطار دبي ..
وبأقل من ثلاث ساعات ، وصلنا ..
كانت هذه المرة الأولى التي يخرج فيها من سوريا إلى إحدى دول الخليج ، بعثة تعليمية حكومية ( إعارة ) ، وخاصة ( عقود شخصية ) بعد حرب الخليج ( عاصفة الصحراء ) ، ومؤتمر مدريد للسلام ..
إذ ، بعد احتباس متناغم مع الحصار الغربي على سوريا ، انفرجت أسارير هؤلاء ، ومعها ، انفتحت دول الخليج ، وفتحت أبوابها ـ جزئيا ـ للسوريين ، عرفانا بموقف حكومتهم من غزو الكويت ..
لذا ، كان الحدث تاريخيا للجميع ، ومثّلت الرحلة أملاً ، وبداية حلم طالما تاقت له نفوسنا ، وعملنا من أجله سنوات ، وشاركَنا الأحبة والأهل والأصدقاء غبطتنا ، وحسدَنا عليه كثيرون آخرون ..
ولم يكن الطريق لهذا اليوم 07/09/1992  سهلا ، بل سبقته أحداث ولقاءات ومقابلات وأوراق ثبوتية وسفر وإقامة ووساطات وانتظار وترقب وشائعات ....
لكن مشيئة الله تعالى تحققت في آخر المطاف ، واضعة حدا ونهاية لكل ذلك ، وصعدنا إلى الطائرة وسط مشاعر ملونة مضطربة قلقة ، انتابتنا جميعا ـ مسافرين ومودِّعين ـ قبيل الإقلاع ، خشية أن يُنادَى على أحدٍ منا ، ليُطلبَ منه النزول لسببٍ ما !!
وإذ أغلق باب الطائرة ، وعلا هدير محركاتها ، وبدأت تتدحرج على المدرج ، ضجت الطائرة بصيحات الفرح والصفير والتصفيق ، فيما تعالت شهقات وزفرات من صدور بعض الزميلات ، وهن يلوحن ويكفكفن دموعا لا يعلم أحد كنهها ..
كانت الطائرة من الداخل مثيرة لدهشتنا ، بأناقتها ونظافتها وأنظمة التلفاز والصوت والشاشات التي تعرض خط سير الرحلة مع معلومات ملاحية أخرى ..
وكانت الشاشات التلفازية اللمسية المثبتة أمامنا ، آخر تقليعة في طراز هذه الطائرات ، والكثيرون منا مذهولون بها ، وجاهلون بكيفية التعامل معها ، ومع أجهزة الصوت الخاصة بكل راكب ..
وما إن استقرت الطائرة في الأعالي ، حتى تحررنا من أحزمة الأمان ، وبدأت ألبي استنجاد الآخرين بمساعدتهم في التعامل مع الشاشات ومقابس الصوت ..

لم أكن أعرف أحدا من جميع المسافرين ، سوى معرفة بسيطة بأحدهم ، ولم تسمح الظروف بتعميق العلاقة ، خاصة مع انشغال الجميع بهاجس الوصول إلى " العالم الجديد " من جهة ، وبالظروف التي حتّمت على كل منا ، الانفصال عن أهله وأسرته وعياله إلى " الاغتراب " فيما وراء الصحراء ..
وحين طُلِبَ منا التزام المقاعد وربط أحزمة الأمان ، بدت المدن تحتنا كتلا من الضياء ، ثم ، بدت ألسنة اللهب المتصاعدة من حقول النفط تتراقص كشموع الأعياد ..
ومع هبوط الطائرة في مطار دبي ، هنأنا بعضنا بسلامة الوصول ، وسط بهجة الجميع وهرجهم .. وقيل لنا عبر مكبرات الصوت في الطائرة : إن ثمة حافلات تنتظر " المعارين " منا في الخارج ، لنقلنا إلى مكان إقامتنا بعد إتمام إجراءات الدخول ، واصطحاب الحقائب ، وذلك حسب الإمارة التي نتبع لها ..
وشكلت لحظة الخروج من الطائرة انتقالا قاسيا من أجواء الطائرة الباردة التكييف ، إلى أجواء المطار اللاهبة المشبعة برطوبة خانقة ، تحشرجت لها حناجرنا ، وتثاقلت أنفاسنا بكثافتها وشدة تأثيرها على الصدور الضيقة ..
نقلتنا ثلاث حافلات متوسطة إلى أحد فنادق المدينة ، بعد مشوار لم يدم أكثر من ربع ساعة عن المطار ..
كان كل شيء مرتبا في الفندق بالاسم ، وكنا حوالي الخمسين .. حملنا الأمتعة ، ورافقنا الأدلاء إلى غرفنا بعد أن أبلغونا بالنزول إلى المطعم لتناول العشاء ..
يقع فندق " الإكسيليسور " في وسط المدينة ..
لبثنا فيه خمسة أيام من الضيافة .. خلالها ، كنا نخرج ليلا للتجول في الشوارع المحيطة ، مسكونين بهاجس الاتصال بالأهل ، من الكبائن المنتشرة فيها ، لطمأنتهم عن أحوالنا ..
كما سمحت لنا أوقات الفراغ الطويلة ، والجلسات إلى الموائد المفتوحة بتعرفنا على بعضنا أكثر ، وتمتنت علاقات الزمالة بينا ، واستمعنا من الضيوف الذين زاروا بعض الزملاء إلى كثير من الشائعات حول المدارس التي سنوزع عليها ، والسلفة النقدية والرواتب والتعويضات التي سنتقاضاها .. كما أخذونا بالتتابع إلى أحد المستشفيات القريبة لإتمام الفحوصات الطبية التي تمهد للحصول على الإقامة اللازمة ..
وحصلت أنا من أحد الزملاء معنا ـ بعد أن سمعته يردد اسمه ـ على رقم هاتف الصديق الموجه الاختصاصي في دبي " عدنان كزارة " ، فرحب بوجودي ، وزارني في الفندق ، واصطحبني في جولة في المدينة ، ودعاني إلى عشاء في أحد المطاعم القريبة ..
كما اتصلت بالأخ " أبي سعيد " في الشارقة ، فزارني أيضا ، واصطحبني إلى أجواء مطعم شامي قريب ، وأكد علي بمودته المعهودة ، أن نبقى على تواصل لأي طارئ أحتاجه ..  
وفي اليوم الخامس ، حملونا إلى " منطقة دبي التعليمية " لاستلام " الإجراء المالي " الذي هو بمثابة قرار التعيين في العمل ، ونُقد كل منا بسلفة مالية قدرها خمسة آلاف درهم ، وأبلغونا باسم المدرسة التي يجب الالتحاق بها صباح الغد ..
على أن نغادر الفندق مساء اليوم ، لانتهاء أيام الضيافة ..
كثيرون منا رتبوا أمور إقامتهم خارج الفندق ، بمشاركة زملاء لهم .. وآخرون اتفقوا على استئجار سكن مشترك ، وغادر البعض مع معارف لهم ، وبقيت أنا و" مفيد " وحيدين من الذكور في الفندق ، كما بقيت بعض الزميلات ، حيث عُرض عليهن استمرار الإقامة بأجر مخفض ، فيما رفضت الإدارة قبول إقامتنا ـ أنا ومفيد ـ بنفس الأجر ، حسب ما أفادنا " عراب العرض " السائق السوري لإحدى حافلات الوزارة ، وكان الفارق كبيرا جدا بين الأجرين !!..
وفي أجواء الحيرة والاضطراب والانزعاج من هذا التمييز ، وكمساعدة لنا ، عَرَض " العراب " علينا أن ينقلنا إلى " بيت الشباب " بدبي ، لنمضي فيه الليلة ريثما نتدبر أمرنا ..
كان بيت الشباب في طرف المدينة القريب من الشارقة ، في محيط ناد رياضي ، حيث وضعت " كرفانات " كبيرة خشبية مسبقة الصنع ، قادنا الموظف المسؤول إلى إحداها ..
كان الضوء خافتا ، وقد استلقى فيها عدد كثير من النائمين على الأرض أو على فرش اسفنجية بالية ، يمتلئ المكان بالرمل وبروائح مقززة ، وتهدر فيه أصوات الشخير والمكيفات التي فشلت في تعديل الحرارة للحد المقبول ..
بدا انتقالنا من أجواء الفندق إلى هذا الجو مقيتا ومهينا ، فرفضتُ الإقامة ، وأيدني مفيد على مضض ، حيث  " تجاوزت الساعة منتصف الليل ، وما هي إلا ساعات قليلة لا تستحق مزيدا من المكابرة " .. ومع ذلك ، عاد معي إلى الفندق ، فقيل لنا : ليس لدينا غرف شاغرة !!.. وفشلنا في تأمين غرفة في فنادق أخرى ، ولم يبق أمامنا سوى القبول بالاستلقاء ـ في السويعات المتبقية ـ في كرفانات بيت الشباب ..
وبعد أن نقدْنا " المسؤول الهندي " أجر الليلة ، اختار لنا من أفضل الموجود عنده : فراشين ووسادتين وغطاءين ، واندسسنا بين الجَمْع ..
وكانت ليلة " تاريخية " في المدينة الصاخبة ..
أيقظني مفيد في السادسة ، ودلني على الحمّام ..
وبسرعة ، هربنا إلى الشارع .. ركبنا سيارة أجرة وطلبت من السائق " الهندي " التوجه إلى عنوان المدرسة التي سنداوم فيها معا .. كانت الشوارع مكتظة بالسيارات والحافلات المدرسية البرتقالية اللون ..
أمام باب المدرسة ، تأكدنا من اسمها المكتوب على يافطة كبيرة " مدرسة السعيدية الإعدادية للبنين " ، فتنهد مفيد وسألني : ألست جائعا ؟
تناولنا فطائر " لم نذق كطعمها من قبل " وعصيرا معلبا ، وعدنا إلى المدرسة ..
استقبلنا المدير " الهاشمي " في مكتبه ببشاشة ، واستدعى وكيله الذي أعطانا جدولا بالحصص ، وسار معنا إلى الفصول ..
خلال الدوام ، استأذنا المدير ـ أنا ومفيد ـ لاستخدام هاتف مكتبه ، فرحب ، وقال بأريحية : لا بأس .. أهلا وسهلا ..
اتصلت بأبي سعيد طالبا تأمين مسكن لي في الشارقة ، فوعد بكل مساعدة ، واتفقنا أن أوافيه في مكتبه بعد الدوام ..
بينما استعان مفيد بالمدير للحصول على رقم هاتف إحدى المدارس التي ذهب إليها زميله " محي الدين " ، فأجرى اتصالا به ، واتفق أن يشاركه مسكنهم بدبي ، وكتب العنوان ..
ثم استدعى المدير الزميل " محمد شريف " الذي يقطن في الشارقة ، فرحب أن يوصلني معه إلى مكتب أبي سعيد ..
محمد شريف ، سليل عائلة مصرية عريقة ، كان جده " باشا " حاكما لإقليم السودان أيام الانتداب البريطاني ، وقبل انفصاله عن مصر ..
وهو مهندس زراعي يدرّس مادة العلوم .. بيته في شارع الوحدة في الشارقة ، وزوجته مدرّسة أيضا فيها ..
لطيف جدا وطيب جدا ومضياف جدا .. وكمعظم المصريين ، سريع البديهة والنكتة ، تنم التماعة عينيه من خلف نظارته الطبية السميكة عن ذكاء فطري ، ولا تغيب البسمة والضحكة عن محياه ..
وفي الطريق المكتظ إلى الشارقة ، أعطاني رقم هاتف بيته ، ودلني عليه حين مرورنا من أمامه ، واتفقنا أن أتصل به لأعطيه عنوان إقامتي الحالي ، ليأخذني معه إلى المدرسة في دبي ..
استقبلني أبو سعيد بمودة وحُنوٍّ ، وخرجنا معا .. تناولنا الغداء ، وذهبنا إلى بيته ، لنقيّل في وقتٍ تكون فيه معظم فعاليات المدينة " مقيّلة " ، على أن نسعى في البحث عن مسكن بعد العصر ..
استعان أبو سعيد بأحد معارفه ، فذهبت معه في جولة على بعض المكاتب العقارية ، وطالت الجولة ، ولم نعثر على ما يناسب ..
استضافني أبو سعيد في بيته في شارع المطار القديم ، واستمر ذهابي إلى الدوام والعودة منه مع الزميل محمد شريف ، واستمر البحث عن شقة مناسبة ..
بذل مدير المدرسة الهاشمي جهدا بالبحث عن شقة في دبي ، فخرجنا معا إلى مكاتب عقارية قريبة ، ولم نحصل سوى على وعود ، لندرة الشقق التي تناسب أوضاعي من حيث القرب من المدرسة ومبلغ الإيجار وعدد الغرف ....
وقد نصحني الزملاء بالاستئجار في الشارقة ، لعدد من الميزات التي تجعل منها أكثر مناسبة للسكن العائلي في بيئة " عروبية " تفتقدها دبي ، المدينة التي لا شيء فيها يجعلك تشعر أنك في بلد عربي ، أو على أرض عربية ، لغلبة الطابع الأجنبي عليها .. 
وبالفعل ، أثمرت رحلة البحث المتواصل في الشارقة ، ووجدت شقة في مبنى " مركز بهمن " في شارع الاستقلال ، فدفعت ثلاثة آلاف درهم كسلفة ، على أن أعطيه ثلاثة شيكات بالمبلغ المتبقي من الإيجار ، واستلمت الشقة فارغة ، وبدون كهرباء ..
نظفت مكانا أستلقي فيه ، بعدها خرجت أسكت جوعي في مطعم قريب ..
كنت وحيدا بعد انتهائي من الطعام ، حين مر من أمام الزجاج " زياد خليفة " ، فتوقف حين لمحني فجأة ، وأومأت له بالدخول .. تعانقنا ، واستخبر مني عن آخر أحوالي وظروفي .. ودلني على شقته القريبة من مكاننا ، في مبنى القاسمية للشقق المفروشة ، ودعاني لمرافقته إليها لارتباطه بموعد هناك ..
زياد ، كان طالبي في معهد إعداد المعلمين بحلب عام 1981 .. وكان هذا لقاءنا الأول بعد أكثر من عشرة أعوام ..
وحين عرف بعدم وجود الكهرباء في شقتي ، لم يتوان في الإصرار على استضافتي حتى توصيل الكهرباء ..

وفي الوقائع المرافقة لاستئجار الشقة ، أفرحني " الإنجاز " الهام ، فاتصلت بالعائلة أبشرهم بقرب احتضانهم بها ، وأرسلت لهم بقائمة بالأوراق والوثائق اللازمة للحصول على تأشيرات دخول لهم ، والثبوتيات اللازمة لتسجيل الأبناء في المدارس ، وأن المسألة يجب أن تتم سريعا قبيل مرور وقت طويل على بداية العام الدراسي هنا ..
لكن .. وُئدَت كل تلك الأوهام قبل أن تزهر ، لاستحالة الحصول على التيار الكهربائي فبل إجراءات كثيرة ، وأهمها :
أنه لكي يتم وصل التيار ، لا بد من أن يكون عقد الإيجار ناجزا ومصدقا من البلدية ..
وأنه لا بد لهذا من أن تكون " الإقامة " ملصقة على جواز السفر ..
ولن يتم لصق الإقامة على جواز السفر الموجود في عهدة الوزارة ، قبل شهر على الأقل ..
ولن تصدر الوزارة تذاكر سفر لمن يرغب باستقدام عائلته إلا بعد صدورها ، ولن تصرف لنا الرواتب قبل شهر آخر ..
وفوق هذا ، لا بد من تأمين مبلغ كبير يفوق ثلاث مرات السلفة النقدية التي استلمتها ، وذلك لشراء مكيفات وأثاث وأدوات منزلية ونفقات أخرى كثيرة ، تفي بحاجة أسرة من خمسة أفراد ..

وفي هكذا بلد ، وهكذا طقس ، تستحيل الحياة في شقة بدون تكييف وثلاجة .. وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون التيار الكهربائي .. فصار الإحباط سيد الموقف بعد كل هذه المعيقات المستحيلة ، وصار لا بد من التخلي عن استئجار البيت ، واسترداد السلفة التي دفعتها ، لألجأ إلى السكن المشترك مع مفيد والآخرين في شقتهم الكائنة في دبي ..
وبعد لأيٍ ، وتدخلٍ من أبي سعيد لدى مالك البناية ، أعاد لي مندوبُه المبلغ ، وسعيت هاربا من كل تلك الدوائر المغلقة ..
ثم ، وبالاتفاق مع مفيد على تقاسم الغرفة الثانية من شقتهم ، اشتريت ( سريرين وملحقاتهما ، وتلفازا ومكيفا وطاولة وعددا من الكراسي وبعض الحاجيات الضرورية ) من معرض مجاور للأثاث المنزلي ، فوجئت بصاحبه " عادل رجب باشا " ( الذي عرفته موظفا في مركز هاتف الأنصاري ، ثم شاهدته بعد فترة ضابط شرطة في حلب ) ، فأخبرني أنه ترك عمله ليرافق زوجته المدرّسة في الشارقة ..
دبي :
الطابق الرابع عشر من بناية تويوتا في دوار الدفاع ، شقة مفروشة بموكيت رمادي داكن ، وتتألف من صالة فسيحة ، وغرفتين وتوابعها ، فأعيد توزيع المكان : الصالة للزميلين عادل حسن ومحمود ..... والغرفة الصغيرة المقابلة للحمام ، لـ بكري سلام عليك ومحي الدين مينو ، ووضعنا أمتعتنا أنا ومفيد في الغرفة الثانية الكبيرة المطلة على دوار الدفاع ، عبر شرفة واسعة ، فصارت للنوم والطعام والسهرة واستقبال الضيوف ...
لم يكن في الشقة قبل وصولي سوى بعض لوازم تحضير الطعام ، وأدوات كهربائية مستعملة ( ثلاجة وغسالة وفرن ) .. وفرش قطنية للنوم رقيقة جدا ، وبطانيات من النوع الرديء جدا ..
ينامون على الأرض ، ويكوون ملابسهم بالنوم فوقها وهي تحت الفراش ، وبلا تكييف ، ويفرشون أوراق الصحف لتناول الطعام ، وينظفون الموكيت بأيديهم من الوبر والشعر المتناثر من الفرش والبطانيات ..
كان محمود وعادل من عامودا في محافظة الحسكة ، وبكري من ريف إدلب ، ومفيد ومحي الدين من حمص ..
محمود وعادل ، شديدا التأثر بالبرودة ، فلا يرغبان بالتكييف البارد مطلقا .. أما محي الدين ، فكان كثيرا ما يفترش الأرض في غرفتنا طلبا للبرودة ، بينما لم يفعل بكري ذلك إلا لماما ..
وكان من الطبيعي أن تكون ثمة فوارق واختلافات بيننا ، حول كثير من العادات المعاشية والتقاليد والانتماءات ، وأساليب الترتيب والنظافة والقيافة ، وأنواع الطعام ومكوناته .....
وإضافة إلى الأثاث الذي امتلأت به غرفتنا ، طلبت ـ فور حصولي على الإقامة ـ توصيل خط هاتفي ، فوفر علينا جميعا ما كنا نعاني منه أثناء الاتصال بسوريا ..
وبدت حياتنا أكثر هدوءا وتنظيما واستقرارا مع اكتشاف المعالم المحيطة في المدينة عموما والمناطق المجاورة بشكل خاص ، وصار سهلا ، الوصول إلى المدرسة والعودة منها ، لنتبادل ـ على مائدة الغداء أو في السهرة ـ القصص الغريبة العجيبة عن سير يومنا الدراسي ، والعلاقة مع طلابنا ، والمواقف السخيفة والمشاهد الفاجعة التي لم نرها سابقا ، ولم نعتد عليها ، ولا تشبه ما كنا نعاني منه مع طلابنا في بلدنا ..

26/09/2012
  
الصورة المرفقة هي لفندق ( الإكسيليسيور ) بدبي عام 1992 ، وقد أعيد ترميمه فيما بعد ، وأطلق عليه اسم آخر .

الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

في نهاية المطاف


في نهاية المطاف

في نهاية المطاف :
هو حصار قتل ، وفتنة طائفية بامتياز ..
إنه حصار فئة كثيرة لفئة قليلة ، استهدفوا فيه أكثر من خمسين ألف مواطن ، كنا قبل بضعة شهور مضت ، نتعايش معا بأمان ومحبة وطمأنينة وسلام ..
إنه حصار يستهدفهم في وجودهم ، كيانا وتعايشا ، أرضا وحجرا وبشرا ..
إنه يستهدف كل أنواع وأشكال الغذاء ، من الطحين ورغيف الخبز إلى ربطة البقدونس وحبة العنب ، إلى المحروقات والغاز المنزلي والأدوات الضرورية الأخرى لمواجهة أشهر الشتاء القادمة ..
كما يستهدف كل أنواع الدواء والعلاج ، ومراجعة المستشفيات للأمراض السارية والمستعصية ، وللولادات المتعثرة ، وللأطفال والكبار ، والمسنين المحتاجين لأدوية وعلاجات خاصة لا توجد غير في مستشفيات المدينة ..
وقد نتج عنه كثير من الحالات الصعبة إنسانيا ، إضافة إلى عدد من الوفيات التي حدثت كنتيجة حتمية طبيعية له ..
ومن لم يُقتَلْ بالرصاص ، أو من التعذيب بعد الخطف ، مات بالحصار ..
إنه شكل من أشكال القتل الجماعي في أبشع صوره ، تمارسه مجموعات ، امتهنت الخطف والسمسرة بالفدية وبأرواح المواطنين الأبرياء وعواطفهم وإنسانيتهم وكراماتهم ، كما انتهجت القتل والترويع وقطع الأوصال والطرق والأرزاق والعمل والغذاء والدواء والماء والكهرباء .. وحتى الهواء ..
جريرتهم وجريمتهم أنهم خُلقوا من هذه الأرض ، وفوقها ، وعاشوا من ترابها وخيراتها ، وتقاسموا مع جميع أهليها : الحلوة والمرة وحبة الدواء وكسرة الخبز وبئر الماء ومقعد الدراسة وكل مراسم الأفراح والأتراح ، في السراء والضراء ..
فصدق في فِعلتهم قول الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند

إن أولئك المنفِّذين ، كرّسوا حصارهم لبقعة سكانية ملونة بلون سياسي لا " يروق " لهم ، وهو في نفس الوقت ، لجزء من طائفة لا تنتمي لأيديولوجيتهم الدينية أيضا ، تحقيقا لإرادتهم في كسر إرادة من يخالفهم الرأي أو العقيدة ..
ويسمونها " حرية " .. ويذبحون مع التكبير والتهليل ..

ومن وراء الحصار ، وإمعانا به ، عقد هؤلاء المنفذون " الثورجيون " تحالفاتٍ مع بعض الجيران ، تعاكس السيرورة التاريخية لأهالي المنطقة وسكانها بعد طول تعايش ووئام .. وهم بذلك ، يزيدون في هواجس المحاصَرين ومخاوفهم على مستقبل أمنهم وحياتهم ووجودهم ، من جهة ، ويوضحون لهم ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ صورة الحياة المقبلة لتكوين المنطقة ، ويكرسون صورتها المستقبلية الإلغائية المرعبة ، من جهة أخرى ..
إذن ، هو حصار مزدوج ، أرادوه بين فكي كماشة ، عن سابق إرادة وتصور وتصميم ، وتم لهم ذلك ، حين حشروا المنطقة في طريق ذي اتجاه واحد وحصري لا سواه ، وأجبروها على الاستسلام لمقولة طارق بن زياد : ( العدو من أمامكم والبحر من ورائكم ، فأين المفر ؟! ) ..  
بهذا ، تمارس بعض الأحزاب الكردية سلوكا خطيرا ، يكشف عن قصور في الرؤيا للحصول على منافع مصلحية ضيقة جدا ، هي أدنى وأقل كثيرا من التوجه النفعي الحقيقي ، مما سيولد انعكاسات سيئة على المنطقة وتعايشها السابق الطويل ، واللاحق للحاضر الصعب القاسي ، وللمستقبل القاتم أيضا .
وما تتعلل به تلك الأحزاب من " حياد " ـ سواء كانت تدري أو لا تدري ـ ما هو في حقيقة المسألة إلا إمعان جائر في تشديد الحصار لصالح العدو المشترك ( تركيا ) ..
فالعصابات المسلحة هي ـ في المحصلة الواقعية على الأرض ـ أدوات تركية ، بينما ، المعروف والشائع ، أن الأحزاب الكردية تعادي الأتراك ، فكيف لها أن تسير في نهجهم بما يخدم مصالح هؤلاء الأعداء ..
وكيف تتوافق تلك التنظيمات مع عملاء الأتراك ضد المنطقة ، بذريعة " الحياد " الوهمية ؟!
وأي " حياد " هذا ؟!
وما هو الثمن ؟!
وما هي النتائج المترتبة ؟!
ولماذا تناست أو تجاهلت تلك التنظيمات أن صديق عدوها لا يمكن أن يكون صديقها ؟!
إن حصول بعض التجاوزات التكتيكية من هنا وهناك ، لا يجب أن يحرف دفة العداوة التاريخية الإستراتيجية وبوصلتها عن مسارها الصحيح ، لصالح أهداف مؤقتة مرسومة بقليل من الحنكة وكثير من السطحية ..
ومن غير المؤمل أن يقف الصديق التاريخي مع العدو التاريخي ضد الصديق التاريخي ، لمجرد مقولة " الحياد " غير الصحيحة في أساسها ولا في توقيتها ولا في نتائجها ولا في مسوغاتها الشكلية أو الموضوعية ..
فهل وَعَتْ وأدركت تلك التنظيمات نتائجَ تحالفاتها على حاضرها ومستقبلها ؟!
وكذلك على علاقتها ببقية التنظيمات الكردية التي ما تزال تناصب الحكومة التركية وحلفاءَها عداءَها التاريخي ؟!
خاصة ، في ظل استمرار النهج التركي العدواني ضدها ، واستمرار ما تشنه الحكومة التركية من حرب شعواء عليهم ؟!

إن قراءة متأنية عقلية واعية لجغرافيا المنطقة سياسيا وبشريا وإثنيا وعرقيا ، تحتم على الجميع تدارك التصرفات المتهورة لخروج أبناء المنطقة الحقيقيين بأقل الخسائر ، وعلى كافة الصعد ، تفويتا لمخططات المتآمرين العابثين بأمن الوطن عموما ومنطقتنا خصوصا ..
إن قرونا من الوئام والسلام والعيش المشترك ، تستحق منا أن نكثف جهودنا ، لإيصال المركب الذي يجمعنا ويحملنا جميعا ، إلى شاطئ الأمان ، قبل أن يُغرِقنا الآخرون بمخاضاتٍ وزواريبَ لا قِبَلَ لأحدٍ منا بعبورها سالما آمنا ..
إن علاقات كثيرة ، اجتماعية وعائلية وفكرية ، ربطت ـ وما تزال ـ بين أبناء المنطقة عبر تاريخها الطويل المشترك ، جديرة أن تمنحنا القدرة على تجاوز الصغائر والتكتيكات الضيقة ، من أجل خير ومستقبل أبنائنا وأسرنا وروابطنا الأخوية المتينة التي يجب أن تكون فوق كل المحن والصعاب ، رغم كل القوى المتربصة بنا شرًّا ..

إن التسامح يزيل الضغائن ، ويحقن الدماء ، ويصفّي النفوس ، ويبيّض القلوب .. وأنا أدعو الجميع للإيمان به وانتهاجه سبيلا للخلاص ، ونهجا للأمان ..
كما أن الحوار الهادئ المتزن ، هو السبيل الأوحد الذي يُوصِل كل ذي حق لحقه ، وهو الطريق الذي يجب أن نسعى إليه جميعا لنجنب منطقتنا وأهالينا كلّ ما يريده الخصوم قبل الأعداء ..
وكلنا نحتاج ذلك ، كحاجتنا إلى الهواء المشترك والعيش المشترك والحاضر المشرك والمستقبل المشترك ..

الإثنين ـ 17/09/2012 

الاثنين، 10 سبتمبر 2012

المقام الأخير



المقام الأخير :

 هبت " رياح كانون المبكرة " على " بنات العيلة " وهن ذوات " أرواح عارية " ولدن ونشأن وترعرعن في " قاع المدينة " ، فأطاحت " ساعات الجمر " بـ " وجه العدالة " ..
وفي أقل من " رفة عين " ظهرت " الشبيهة " في " حارة الطنابر " ، فاجتاح " أبو جانتي " محطة " سيت كاز " ، وتعالى نعيق الغربان في " الخربة " العامرة ..
وكان ثمة همزات وهمسات وغمزات و " حكايات بنات " عن " صبايا " يتبخترن ويتغندرن ويتفيهقن مع " سبق الإصرار " ..
عندها قال أهل " زمن البرغوت " :
نحن " الغالبون " منذ " الولادة من الخاصرة " إلى " أيام الدراسة " على " بقعة ضوء " من " المصابيح الزرق " ..  
فأعلن " الزير سالم " أنه أرسل عددا من " رسائل الحب والحرب " لكل من " دليلة والزيبق " ، كما أرسل " رسائل شفهية " إلى " أسعد الوراق " ، وأنه ـ وبناء على ما تقدم وما مضى ـ : فقد " تعب المشوار " ورمى " المفتاح " في البير .. 

والسلام ختام .. 


25/08/2012

الأحد، 9 سبتمبر 2012

المقام قبل الأخير :


المقام قبل الأخير :

أرواح عارية :
أرواحٌ عاريات ؟؟!!
يوحي ذاك العنوان بكثير من الرؤى ، ويثير أسئلة شتى ..
وبعيدا عن المسلسل الذي سرقتُ عنوانه ، دون أن أرى منه شيئا يذكر ، لجملة أفعال مبنية للمجهول ، ويعرفها الجميع ..
أتساءل : كيف تتعرى الروح ؟ ولماذا ؟ ومتى ؟ وأين ؟
تلك ـ ربما ـ هي المسألة .. وهي الأسئلة ..
هل يفضي عري الجسد إلى عري الروح ؟
هل لأحدهما علاقة ما بالآخر ؟؟
هل عري الجسد يفترض عري الروح ؟
أم عري الروح يفترض عري الجسد ؟
هل عري الروح أشمل من عري الجسد ؟
وهل وجود أحدهما دليل على وجود الآخر ؟
بعد تعري الروح : هل يبقى شيء مستورا ؟
كلنا يعرف عري الجسد ، فما هي ماهية عري الروح ؟
وأيهما " أرفع شأنا " من الآخر ؟
إذا كان عري الروح يُسقِط ورقة التوت الأخيرة ويغدو كل شيء مباحا .. فهل يُوَصَّف ذلك بـ : منتهى الفجور ، مثلا ؟
وأيهما أكثر تأثيرا وتدميرا : عري الجسد أم عري الروح ؟
رغم أن عري الجسد " في بعض الفنون التجسيمية " له وظائف ودلالات تعبيرية وجمالية أخرى ..
أيكون عري الروح عريا حتى الثمالة ، وليس بعده بعد ؟
هل يمكن أن توصيف عري الروح بأنه :
الغواية أو الفسق أو الفجور أو الموبقات الإنسانية والدينية ؟
أتليق صفة واحدة من تلك بـ عري الروح ؟ أم إن كل تلك ، قليل عليه ولا تعطيه حقه ؟
لست متأكدا فيما إذا كان عري الجسد حراما في كل الشرائع !!..
وعليه : أيكون هو " الحرام " بعينه ؟؟
عندها ، ما هو التوصيف اللائق بـ الأرواح العاريات ؟؟
يا لهول ذاك وذلك !!
يا لهول الفاجعات المصيبات !!
ويا لفداحة الخطوب !! ..

22/08/2012