من التدريب
الجامعي إلى الكلية الجوية
نحن في صيف 1974 ..
وفي نهاية السنة الأولى من الجامعة ،
التحقنا بمعسكر التدريب العسكري الجامعي الصيفي الأول ، الذي تمت ترتيباته على عجل
، واختير مكانه في " مدرسة المشاة " بالقرب من حلب ، ضمن ظروف جوية
قاسية ، وحالة نفسية صعبة ، كونها التجربة الأولى لنا وللمسؤولين عنا ، كأول دفعة
تنفذ المرسوم الذي أحدَثَ التدريب العسكري الجامعي ، بعد حرب تشرين الأول 1973 ..
1 ـ البداية :
وهناك ، قسّمونا إلى مجموعات ، وسلموا
أفراد كل مجموعة خيمة ومستلزماتها وأسرّة وقصعا للطعام .....
واستلم كل منا بعض المهمات الفردية
الخاصة به ، كاللباس والحذاء العسكري والمَطرة ، وكمية من القطن المضغوط ، وحرامات
وغلاف فراش وغلاف وسادة ..
وقيل لنا : روحوا " دبروا راسكم
" ..
كيف سننصب الخيمة ؟ وكيف ستتسع لثمانية
أسِرّة ؟ وكيف سنندف القطن وهو مضغوط كالرصاص ؟ وكيف سنحشوه في غلافي الفراش
والوسادة ؟ وكيف سنخيط فوهتهما ؟! ألله تعالى أعلم ..
وَوُزعت علينا المهمات الفردية (
البدلة والبوط ) عشوائيا ، لا على التعيين ، وقيل لنا : تبادلوها فيما بينكم حسب
مقاساتكم ..
وهكذا فعلنا ، لكن ، ظل هندامنا
كاريكاتيريا رغم كل عمليات التبادل والتجميل الآني ، ولم يتحسن الهندام إلا بعد
أول مغادرة للمعسكر ..
أما الأرض التي سننصب خيامنا فيها ،
فكانت حجرية حصباء ، وغير مستوية ، لأنها مفلوحة ومزروعة بشعير ، رَعَت الماشية في
الربيع كلَّ ما ظهر منه فوق الأرض ، وبقيت جذوره والأشواك وروث الحيوانات ..
مياه الشرب تُملأ في مقطورات تحت أشعة
الشمس ، تنفد خلال سويعات .. ويبقى الأمل بما تحتويه مطرة كل منا ..
الحمّامات " كفاكَ لا رواك "
..
السهرة " رومانسية " جدا على
ضوء القمر والفوانيس ..
باختصار : كانت الظروف غير مألوفة ولا
متوقعة ، ولا تطاق ..
2 ـ خذلتني عيناي فأنقذني قلبي :
جاءتني
فرصة ثمينة ، أضرب فيها عصفورين بحجر ..
فقد وصلني إشعار بتارخ 17/07/1974
بوجوب الحضور إلى دمشق لإجراء الفحوص الطبية اللازمة ، لقبولي طالبا ضابطا طيارا
في المعهد الجوي من الكلية الجوية ..
وكان هذا بعد طول ترقب وانتظار ،
ارتكبت من أجله مخالفات وتجاوزات ..
في صباح اليوم الثاني ، أخذت الإشعار
إلى قائد المعسكر العقيد حمادة كوسا ، فأمر " رقيب " القلم ليعدَّ لي
" أمر مهمة " إلى دمشق ، للمثول أمام اللجان الطبية ..
وهناك ، اجتزت كل اختبارات اللياقة
والصحة ، ورسبت في فحص العينين الشديد الدقة والحساسية ، فقد أخفقت عيناي ـ عبر
جهاز يعرض الصور من الفضاء ـ في اختبار " تمييز أجسام صغيرة فوق الأرض "
، وهي المرحلة الأخيرة من اختبار العينين ..
وهذا كافٍ بحد ذاته لإنهاء "
الحلم " ، والخروج نهائيا من المسابقة ..
لا أعرف كيف فاجأتني ـ فورا ـ دموعٌ
مدرارة من عينيّ ، وأنا ما زلت على الكرسي أمام الجهاز " اللعين " ، حين
قال لي العميد الطبيب : إن عينيك لا تساعدانك على أن تكون طيارا حربيا ، هل تريد
أن أحوِّلكَ إلى الكلية الحربية ؟ ستكون هناك ضابطا نموذجيا ..
كانت المرة الأولى والأخيرة في حياتي ،
تنهمر فيها دموعي بدون إجهاش ولا بكاء ، كأن عيني أدركتا عمق خيبتي ومأساتي بهما ،
وأنهما السبب المباشر في تحطيم ما كنت طامحا له ، فأرادتا أن تكفرا عن ذنبهما بذرف
الدموع ..
انشدَهَ العميد الطبيب وهو يراقب
انهمار دموعي ، واختناق صوتي ..
لا أعرف ما الذي انتابه ، لكنه لم يكتب
النتيجة النهائية على بطاقة فحصي ، بانتظار جوابي ..
نظر فيها ، وإلي .. همّ بالكلام ، ثم ،
لم يقل شيئا ..
الثواني تمر مؤلمة بطيئة لزجة ..
قال كأنه يعتذر لي : يا بني إن عينيك
لم تجتازا الفحص على الجهاز .. وهذا ليس لي فيه حيلة ..
تمالكت نفسي ، حتى تغلبت على حشرجة
صوتي ، ثم رجوته أن ينجّحني " لأمنيتي أن أكون طيارا ، ولأنتقم من الصهاينة
الذين احتلوا أرضنا وقتلوا شقيقي " ..
وأكملت بتماسك وحسم : إما أن أكون طيارا
وإما فلا ..
كان واقفا بجانب الجهاز الذي سبَّبَ
رسوبي ..
مشى إلى الطاولة ، جلس ، وسألني عن
مزيد من التفاصيل عن أخي ، ثم قال وهو يكتب ويوقع على البطاقة : إنك ـ يا بني ـ
سترى عدوك بقلبك أكثر من عينيك .. تكرم عيونك .. تفضل خذ بطاقتك وأكمل فحوصك ..
لكن ، اغسل وجهك قبل أن تخرج من هنا ..
أكملت الفحوص بنجاح وأنهيت مهمتي ،
لألتحق بالمعسكر في اليوم التالي ، فصودف
أنه اليوم الأخير منه ..
وهكذا ، ضربت " العصفورين "
بحجر واحد ..
لكنها رمية من غير رام ، تزامنت وتمت
بالصدفة ، وليست بالحذق ولا بالمهارة ولا بالفهلوية ولا بالحيلة ..
وعندما وصلت ، كان الطلاب يسلمون الأدوات
والمهمات التي سبق أن استلموها ، بينما قائد المعسكر شخصيا ، ينقد كل طالب مئة
ليرة سورية " صحيحة " ..
3 ـ المعارضة :
في أواخر شهر تشرين الثاني 1974 ، وصلتني دعوة
للالتحاق بالكلية الجوية ـ المعهد الجوي ..
واجهتُ المعارضة الكبرى من والدتي ـ
رحمها الله ـ بإصرار وحزم ، وهي المفجوعة بأخي الأكبر ، ابنها البكر ، فهددتني بإفشاء
السر فورا إن التحقت بالكلية الجوية ، وأضافت : " ولو سجنوك فهو أرحم لي
" ..
وكانت زوجتي هي التي أفشت بذلك لأمي ،
وهي تعارض ما أقدمت عليه ، لكنها لا تستطيع الضغط علي ..
وهي التي تعرف سبب عدم تسجيل زواجنا ،
وترى أنه من غير الممكن أن أتركها للمجهول مع ثلاثة أطفال ..
فاتفقتا علي ..
ولأنه ليس في يدي حيلة أخرى بشأن
" العزوبية " كشرط لازم لقبول طلب تطوعي ، أخذت احتياطياتي بشكل جيد ..
فلم أسجل زواجي في المحكمة الشرعية ،
ولا في الأحوال المدنية ـ عمدا ، وعن سابق إصرار وتصميم ـ رغم مرور خمس سنوات عليه
، لأحافظ على لقب " عازب " في السجل المدني ، انتظارا لهذا اليوم ..
ولكي لا يبقى ابني البكر " مكتوما
" ، أي : بدون قيد مدني يسمح بتسجيله في الروضة مثلا ، فقد سجلته أخا لي في
دفتر عائلتنا ، وتركت أخاه الأصغر وأختهما مكتوميْن لوقت لاحق ( يخلق الله فيه ما
لا تعلمون ) ..
ولم يعترض أبي عندما استشرته في تقديم
طلب التطوع ، ولم يمنعني ، بل قال : توكل على الله ..
(( وأظن أن موافقته كانت لثقته باستحالة
تطوعي بعد أن صرنا عائلة من خمسة أفراد ، مفترضا أنهم لن يوافقوا على ذلك )) ..
لكن ضغطا ونواحا متواصليْن من أمي
وزوجتي ، أجبراه ـ أمام إصراري ـ أن يبلغني ممانعته النهائية في الالتحاق طيارا في
الكلية الجوية ..
وحين انتقدت موافقته المبدئية على
التطوع ، عزّاني قائلا :
" لو كنتَ تطوعتَ في الكلية
الحربية لكان أهون شوي " ..
قلت له : لكن أخي استشهد وهو خريج
الكلية الحربية !! ..
قال حاسما : لن تذهب ، وكفى ..
واكتفيتُ ، وما ذهبت ...
الجمعة ـ 25/11/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق