الدكتور محمد حموية ـ تحية حب ووفاء
1 ـ
ربما كنتُ الأكثرَ حظا بين أقراني
وزملائي ، بأن حظيت بالرباط الأوثق الذي جمعني بأعز أستاذين صديقين في المرحلة
الجامعية .. هما : " أبو خلدون د. فؤاد المرعي ، وأبو وائل د. محمد حموية
" ..
و " بين الحبيبَين ، ما قلبي بمنقسِم
"
ولئن ما زلت أتهيب الخوض في غمار تلك
الوشائج ، إلا أنني ـ مدفوعا بالحب والتقدير والوفاء ـ أرى أنه آن موعدي معهما ،
لأستجلي صورة أيام وسنوات مضت ، كان لها عميق التأثير الإيجابي عليّ شخصيا ، وعلى
مسيرة حياتي العملية فيما بعدها ..
ولعل حديثي ـ أولا ـ عن الراحل د . محمد
حموية ، ـ رحمه الله ـ سيكون الأصعب والأقسى في استكشاف واستخراج مكنوناتِ الودّ
ونشرها وتعميمها ، لأنها " حالة " لا تـُوَصَّفُ ، ولا يُعَبَّرُ عنها ،
ولا حتى بحروف العربية التي استوعبت كلَّ شيء ..
لستُ أبالغ ، وليس من قبيل السائد
المعروف بـ " تكريم ما بعد الموت " ..
وليس رثاءً فات أوانه منذ زمن ..
وليس من باب " اذكروا محاسن
موتاكم " فحسب ..
إنما هي وقفة احترام لحياته ولرحيله ،
وتقديرٌ لعطائه ، ووفاءٌ آجلٌ ومستحق ، وعربونُ محبةٍ خالصةٍ ، وفاتحة الكتاب تتلى
مزجاةً له أبدًا ، في غيابه الفاجع ، وفي ذكراه الزكية ..
فلقد كان ما كان .. لكن الغياب أولا ،
والرحيل ثانيا ، أرخيا سدولاً قاتمة ، حجبَتْ كثيرًا من الرؤى والمباهج .. ولم يعد
ينفع الراحلين سوى الرحمةِ والمغفرةِ ، نطلبهما لهم من العلي القدير ، ليبقى سلام
أرواحهم آمنا مطمئنا في علياء الملكوت ..
فـ أبو وائل الإنسان ، ضميمة من ريحان
ونور ، وكينونة متفردة ، ذات خصوصية وبهاء ..
لا يشبهه أحدٌ في حلمه ووقاره واتزانه
..
ولا يشبه أحدًا في أناته ورويته وهدوئه
..
اعتاد عليه الصبر الجميل ، فتآلفا
كعصفورين في قفص ..
واكتسب من الفارسية ـ التي عَجَمَت
لسانه وقلبَه ولم تستحكم بهما ـ طقوسَ الفرح الحزين ، والحزن الغامر ، وذاق طعم
السكينة ، ونهل منها حتى الارتواء ..
وبقيت " فوضاه " أقنوما
طاغيا عصيّا على التغير .. فما بالك بالزوال ؟! ..
هو مزيج من حضارات شرقية عاش بداياتها
على ضفاف الفرات قبل " التشرّق " ، واستكملها بعده ، فسكنت فيه بكل
ألوانها وأوجاعها ، وتلازمَا وتساكنا " سُكنى اللون في العلم " الشامي
الأصيل ..
ومنذ أن يَمَّم وجهَه للغوص في الآداب
شرقا ، ظل الغرب غاربا في مرآته ، ثم رماه وراء خط أفق غروبِ المتوسط ، وظل نَفورا
منه ، حتى إذا ما تماسّا لضرورة ، جدّد وضوءَه قبل التوجّه إلى محراب العبادة ..
2 ـ
لم أعد أذكر كيف التقينا ، وتصادقنا ، وتحاببنا
، وتعاشرنا ، في لحظةٍ واحدةٍ ، من يوم واحدٍ ، نسيَ التاريخُ ما قبله ، وقفز
الحاضرُ نحو غدٍ آتٍ كأنه البراق ..
ولا أذكر كيف تجمَّعَتْ على أبواب الأفئدة
كلُّ تلك المحبة والنقاء .. فكأننا كذلك مذ خلقنا ، أو ربما بُعيد البداية ببرهة
امتدت اثنين وعشرين عاما ، فانشطر العمر لها شطرين ..
قبل البداية كانت أعداد السنين ضحلة ،
وبعدها صارت الأيام ماردا ..
كيف تكوّنتْ ، ولماذا ؟ وأين ؟ ومتى ؟
..
لا أعرف .. ولا أذكر ..
كل ما أعرفه : أنها وُلِدَت بكاااااامل
كمال هيئتها ورونقها وزخرفها .. وازّيّنتْ بكل ما يملأ ربيع الكون ..
كانت ولادتها طبيعية ، وليست قيصرية ..
كانت خِلقة ربانية ، وليست صَنعة ..
كانت جبلـّتُها لحمًا حيا ، وعظمًا صلبًا
، ودمًا قانيا حارًا ..
اكتسبتْ من البراءة طهرًا ، وكساها
الصدقُ ألفة ومحبة ، فتنزهَتْ عن كل المدنِّساتِ والموبقات والشكليات المزيَّفة ..
لذاك كله ، كان أبو وائل يؤثر أن
يخاطبني بـ " كنيتي " مودة ولطفا وتواضعا .. وأخاطبه بـ " كنيته
" تحببا وتهيبا واحتراما ..
كيف لا ، وقد حدث ذات يوم ، أني قصدت
مكتبه بعد أدائي امتحان مادة له ، فوجدت عنده طالبا " vip " هو أعلى مسؤول سياسي في حلب ـ وكنت
التقيته عرضا في أماكن أخرى أكثر من مرة ـ ، فأردت الانسحاب لظني بوجود حديث خاص ،
لكن أبا وائل أصر عليّ ألا أغادر ، ونهض يستقبلني بحفاوةٍ أربكتني ، مما دفع بضيفه
أن يحذو حذوه ، وقدمني له على أني : صديق عزيز .. مضيفا : تفضل اجلس يا أبا نضال
" نتقهون " معا ..
3 ـ
وإذ تعتريكَ الهيبة من بلوغك أقاصي أسيجة الحِمى
، فكيف السبيل لدخولكَ العرين ؟!
إني ما زلت أتهيَّب عرينكَ أيها الراحل
العزيز ، الحاضر الحاضر ..
أ أغبطك على حياتك ، وكانت كدّا وكدحًا
وعطاء ؟!
أم على رحيلك ، وكان قاسيا وصعبا
وفاجعا ؟!
أ تغبطنا على حياتنا المديدة "
الأليمة " بعدك ؟!
أم نغبطك على رحيلك عنا قبل بلوغ شمسك
رابعة نهاراتنا المظلمة ؟!
أ نفرَحُ بتطاول أيامنا بعدكَ حتى
التلاشي في مستنقعات الأسن والأوبئة ؟!
أم نشمَتُ بعجز الموت عن اللحاق
والإمساك بنا من تلابيبنا التي تكاد تمزقها ريحٌ هوجاء ، ما عرفناها ولا ألِفناها
ولا تآلفنا معها ؟!
ولأني أعرف أصالتك ـ أبا وائل ـ ونبلكَ
، فقد رأيتُ ، ولمستً ما لم يرَه كثيرون ..
وأشهد أني رأيتكَ غيرَ آبهٍ لما تمسَّكنا
ونتمسك نحن به حتى حدود الفناء ..
ورأيتك لم تتشبث بما آثرنا الاهتمامَ
به والركوضَ وراءه ، أحلاما مشروعة كانت ، أو خيالا أو سرابا ..
فيا أيها الظاعن عن فضاءاتنا وأنوائنا
ودموعنا الحزينة !!
ويا أيها المستكين المتصالح مع الكون
وخالقه وخلائقه ، أعلن :
أنني أحببتك واحترمتك وقدّسْت طهرَكَ
ونقاءَكَ ، وما زلت ..
أعلن أنني رأيتُ ، نعم رأيتُ ، عقلكَ ،
ولامستُ روحكَ ، وشردتُ طويلا مع عبَق دخان سيجارتك الذي يمخر عباب شعث غرّتك في
أمداءٍ من الصهيل المموسق ..
وأعرف أن ما فيك ، يظهر على فيك .. فلا
يتغيّب ولا يتمظهر ولا يتراءى غمزا ولا لمزا ..
الآن .. أحسُّ بيدك ما تزال تقبض على
ذراعي ونحن نعبُر ممرات الكلية ، بين قاعة المحاضرات ومكتبك ، وكنت أتمنى أن تطول
بنا الطريق وتطول ..
أعترف ، كم كنت أعشق وأعتز وأفخر بذلك
المشوار الذي كثيرًا ما غبطني عليه المحبون ، وحسدني به الحاسدون !!..
وهناك ، في غرفة مكتبك الرائعة
الفوضوية حتى الثمالة ، تتغلغل في خياشيمي رائحة القهوة وهالُها ، فأرتشفها حانيا
عاشقا ، أو أتنعنش ببخار الزهورات الدافئ ، أو تحلو لي رشفة الشاي في الكأس المذهّبة
من يد أحدهم " حمزة أو عرب أو حسن " ..
ولم يكن كل ذلك ليخففَ صقيعَ المكتب ،
لولا أنفاسُكَ التي تزفرها بين كفيك ، فيفيض المكان بها دفئًا وأنسًا ..
أيضا ، رأيت ارتعاشة رموش عينيك أمام
سؤال طالبة لم تأخذ راحتها بالسؤال ، حرجًا مني ـ ربما ـ ، أو بالتأكيد ، من
طغيانك الهادئ ..
وتابعتُ قلمَكَ الأحمرَ يمر فوق سطور إجابات
طلابك ، ثم يتوقف مستجيبا للرحمة التي يفيض بها صدرُكَ ، ليغيّرَ الدرجة من حال
إلى حال ..
وإن نسيتُ ، فلن أنسى ، بل ما زلت أسمع
ثغاء " أغنام قصتك " التي قرأتَها لي في عددٍ قديم من مجلة "
الآداب " ، نبشتَ عنه طويلا ـ بعد إلحاحي ـ حتى عثرتَ عليه مع ثلاث أخواتٍ
يتيمات لها ، كنَّ بين أكياس كتب مكتبتك .. وقد نشرت في أيام الصبا ، وهي كل ما
تبقى من أقاصيصك الكثيرة ..
ما زلت أمشي مع ذاك الراعي بين حقول
" جرابلس " وعلى شاطئ فراتها ، مصغيا لصوت القطار النازف فراتا وعشقا ..
ما زلت أرى أكياسَ كتبك مكدَّسة في
غرفة بيتك في " أقيول " ، فكأن الكتبَ المضمّخة بالعتمة والرطوبة ، تنهض
إليك شوقا لدغدغةٍ منكَ ، كدغدغتكَ " وائلك " الوحيد ..
ما زلت أسمع منكَ ذكرياتِك أيامَ
الدراسة في " إيران " ، وانسجامك واستشعارك تأثرا بالطبع والطبيعة التي
احتضنتكَ وملأتْ عليك كيانك وعقلك ..
رنين ضحكتك ـ بكل رصانته واتزانه
وهارمونيته الناعمة ـ يتردد في نجواي كرائحة الخبز الأسمر الساخن في يوم سَغبٍ
طويل ..
وأصابعك المعروقة " تلملم "
ألوانَ الطيف الفضية عن شعرك الأسبل ، فتتوهج عيناك من خلف زجاج النظارة لتعلن
براءتك ونقاءك وصفاء الروح والنفس ..
تشكو ، فلا تتظلم ..
تهجو ، فلا تقدح ..
تمدح ، فلا تغلو ..
تعطي ، فلا حد ..
ولا تأخذ ما تأباه عِفـّتك ، وهو
الأكثر الأكثر ..
تحب ، فلا تكره ..
تعشق الخير والجَمال والحق والحقيقة ..
معبودُكَ ـ يا أستاذي وصديقي ، يا أبا
وائل ـ ملأ عليكَ كيانكَ وَجَلا وخشية ومحبة وإيمانا وخشوعا ..
فطيّب الله ثراك ، وغفر لك وجعل مثواك
جنان النعيم ..
لك الرحمة والسلام أبا وائل ..
يا ألله .. يا ألله .. يا ألله ..
الأحد ـ 13/11/2011
رحمه الله.. كان جديرا بلقب أستاذ.
ردحذف