جامعيات
أثيرة
تطابقت
آراء بعض أساتذتنا الكرام في كلية الآداب من جامعة حلب ، على أن طلاب دورة 1973 ـ
1977 يتميزون عمن سبقهم وعمن تلاهم ..
وعدّها بعض الأساتذة " آخر الدورات "
المميزة والملتزمة نضجًا ووعيًا ، والمتجاوبة المستجيبة ، وذات الأهمية والشأن في
التحصيل العلمي ، والحرص على التفوق الحقيقي ..
وتلك الآراء عبر عنها ، وسمعتها من كل من : د.
فؤاد المرعي ، والأستاذ محمود فاخوري ، والمرحوم د. محمد حموية ، والمرحوم الأستاذ
محمد الأنطاكي ..
وغالبا ما كان يتم التعبير عن ذلك ، بحضور أساتذة
آخرين وفي معرض الإشارة إلى تفوق أعداد من طلاب وطالبات هذه الدورة ، وفي التنويه
والإشادة بالعلاقة الحميمة التي تجمع عددا كبيرا منهم بأساتذتهم ، فيوافق الأساتذة
الحاضرون على هذا " التقريظ " ويثنون عليه ..
ومنهم : د. أحمد هبو ، د. مصطفى جطل ، د. فايز الداية
.
وفيما لم أسمع آراء كل من : الدكتور فخر الدين
قباوة ، والأستاذ علاء الدين زيتون ، والدكتور وهيب طنوس ، والدكتور توفيق برو ،
فقد سمعت شهادات مباشرة تثني أيضا على طلاب هذه الدورة ، من كل من الأستاذة منى
برغوث ، والأستاذ كمال خليل هنداوي ..
(الذي حظيتُ منه بدعوة خاصة لزيارته في منزله ، ومشاهدة
مكتبة والده الأديب خليل هنداوي ) ..
"" وعلى كل حال ، فإن تلك الآراء ـ
عموما ـ ظلت سائدة وتتردد في المناسبات التي نلتقي فيها بأساتذتنا حتى منتصف
الثمانينيات الماضية ، ولا أعلم إن طرأت تغيرات عليها فيما بعد ، أو لم تطرأ
"" ..
1 ـ الأستاذ محمود فاخوري :
باستثناء الأستاذ فاخوري ـ الذي عرفته
منذ كنت طالبه في المرحلة الثانوية ـ فإن جميع من توطدت علاقتي بهم من الأساتذة في
كلية الآداب تحديدا ، كانت عبر التواصل معهم في مكتب الدكتور فؤاد المرعي غالبا ، ومكتب
المرحوم الدكتور محمد حموية أحيانا ..
.............
في المرحلتين ، كان الأستاذ محمود مثال
العطاء والإخلاص والتفاني ..
ومنذ دخوله المحاضرة ، يفتح حقيبته
الجلدية الكبيرة ، ويكبس زر التشغيل الآلي لصوته ، فلا يتوقف إلا بعد أن يتوافد
الفضوليون على باب القاعة ، فينتبه إلى أن وقت المحاضرة قد انتهى ..
يفيض كأنه " يغرف من بحر
" ..
وينساب حديثه على وتيرة واحدة ،
وبنغمة واحدة أيضا ، وكأنه مدوزن على مقام البيات ..
هادئ ، وقور ، لطيف ، كيّس ، سَمْح
..
لا تستطيع ألا تحترمه منذ اللحظة
الأولى للقائك به ، ويشعِرُكَ أنكَ ندُّه ، ولو كنتَ أكسل تلاميذه ..
وإذا جادلته ، ترفق بكَ كي لا
يجرفكَ طوفانُ علمه ، ويأخذكَ من يدكَ إلى الشاطئ ، ولا يدعكَ إلا بعد أن يُدخِلَ
الطمأنينة إلى عقلك ونفسك ..
هو لسان العرب وتاريخ الأدب ومعجم
البلدان والأغاني والأمالي والبيان والتبيين ..
هو طبقات الشعراء وأخبارهم ، وهو شرح
المعلقات ..
هو أبو الأسود الدؤلي والفراهيدي
وابن جني وقدامة ..
هو المدارس النحوية البصرية
والكوفية والبغدادية ..
هو الجاحظ والأصفهاني وابن خلدون
والأصمعي والفارابي ..
هو عروة بن الورد والشنفرى والأعشى
وجرير والفرزدق والأخطل ..
هو المتنبي وسيف الدولة وأبو فراس
وابن زيدون ..
هو باختصار : مكتبة ناطقة متنقلة ..
وأنا كنت له " بالمرصادي
" ..
استغليتها " أبشع "
استغلال في السنوات الأولى من عملي ، إذ كثيرا ما كنت أحتاج إلى جوابٍ شافٍ وسريع
عن مسألة أجهلها ، فأختصرُ الوقت والبحث بالاتصال به هاتفيا وفي أي وقت ، للسؤال
عنها ، وما أكثر ذلك !!
ولم أكن أرعوي ، ولم يكن يضجر ..
ما أروعك أستاذي العزيز محمود
فاخوري !!
أهداني ـ مشكورا ـ كتابه " موسيقا
الشعر " المطور والمعدل عن " سفينة الشعراء " ، كما أكرمني بزيارته
بيتي مع أستاذيّ العزيزين ..
2 ـ الأستاذ محمد الأنطاكي :
هو الهيبة والجلال والوقار "
والهمشرية والشببلكية " ..
وفوقها ، أضفى عليه الشيب "
الجميل " طلة بهية ، فبدا شابا بهيئة شيخ أشيب ..
بمعنى : " يا هيك الشيب يا بلا
" ..
له الفضل الكبير عليّ ، وعلينا في
فهم واستيعاب مادة النحو في السنة الأولى ، و" فقه اللغة " في السنة
الثالثة ، وبينهما : محاضرات تتصف بالطرافة والفائدة ، كانت تعليقا على "
النصوص القديمة " التي نتدارسها تفسيرا وتحليلا وفكفكة لعقدٍ نحوية وبلاغية
وصرفية ....
ومحاضرة النحو عنده ، مكثفة موجزة
مبسطة ، ومستقاة من كتابه " المحيط " ذي الأجزاء الثلاثة ..
وكان لسانه ويده يتوافقان في النطق
والكتابة السريعة المنسقة جيدا على السبورة ، وأنا من المتمكنين بالكتابة السريعة
فأتابعه على الدعسة ، لكن ، يبقى الأمل والرجاء لدى الآخرين باللحاق به والكتابة
في دفاترهم ..
وهيهات ، حتى يطوف دفتري بين أيدي
الأغلبية ويعود إلي في نهاية المحاضرات ..
ومثل الأستاذ فاخوري ، فإن أبا تميم
موسوعة متنقلة .. وشخصية ظريفة جدا ، ومحدث بارع ولبق ، يجيد استحضار النكتة
وروايتها في الزمان والمكان الأنسبين ، ويستجيب لها إن سمعها من أحد ..
سريع البديهة ، لمّاح ..
كنت أشعر أن له عيونا أخرى في مؤخرة
رأسه ، تجعله متيقظا لكل ما يجري من حوله .. حقا ما أقول ولست أبالغ ..
يختبئ تحت هدوئه بركان خامل ، لكنه
إذ يثور لا يُبقي ولا يذر ..
تقاربت معه في السنة الجامعية الأولى ، حين شاركَنا في رحلة
إلى الساحل السوري ..
وتلك كانت ، أول مشاركة لي في رحلة خارج مدينتي
الأثيرة " حلب " إلى الساحل ، تتألف من ثلاث حافلات ، ومشتركة مع قسمي
اللغة الإنجليزية والفرنسية ..
اخترت الجلوس إلى جانبه .. وأصغيت
بشغف المحِب ، لعشقه للطرب الأصيل والموسيقا ، ومنها إلى بحور الشعر ونغماتها التي
يوقـِّعُها تفعيلاتٍ في كفيه ، بانسجام مع تأديته لها نطقا فنيا مميزا ..
ثم أسهب في سرد ذكرياته عن عمله
مدرسا في حلب ، وعن الأحياء القديمة التي عاش فيها ، وكيف كانت الحياة بسيطة خالية
مما نحن فيه الآن ، من مصاعب وتعقيدات ..
" وكنا في ربيع عام 1974 " ..
وكما عشقت محاضراته في النحو ، أحببت
محاضراته في " فقه اللغة " ، وكنت أحد القلائل الذين حرصوا على حضورها ،
لقيامه بتجريب صوتي عملي لما أورده في كتابه الشائق ..
قضى أبو تميم مبكرا في حادث سير في
أوائل الثمانينيات ..
تغمدك الله بواسع رحمته أبا تميم ..
3 ـ الدكتور عمر الدقاق :
حين دخلت الجامعة في السنة الأولى ،
وعرفت أن عميد كلية الآداب هو د. عمر الدقاق ، انتابني شعور عارم من الفرح قبل أن
ألتقيه ..
لا لشيء ، إلا لأن مكتبتي تحتوي على
كتابه " الاتجاه القومي في الشعر العربي الحديث " والذي سبق أن أرشدني
إليه الأستاذ فاخوري أيام مرحلة الدراسة الثانوية ..
وبدأت المسائل تخبو بعدها رويدا
رويدا ..
فقد حاضر فينا في عدد من المقررات
الجامعية ، واتفقت آراء كثير من الزملاء على أن د. الدقاق في محاضراته ، ليس هو
نفسه في كتبه العديدة ..
فبمقدار ما كنا نرى كتبه مهمة
وشاملة وحيوية ، كانت محاضراته تسير " كما المياه في الطلوع " ..
وهو شخصية كلاسيكية قلبا وقالبا ،
شكلا وجوهرا ، يحب " الإتيكيت " وينفذه ، وكنت أحييه بانحناءة بسيطة حين
نتقابل في الممر ، حرصا مني على احترام " إتيكيته " ..
ولم يكن د. دقاق شخصية مقربة من
طلابه ، بل هو أقرب إلى الانعزالية ، حتى إنه كان يلتزم الطرق الجانبية الدائرية
في خروجه ودخوله كي يتجنب أماكن التجمعات الطلابية ..
ولم يستطع أن يقاوم غضب د. طنوس عليّ
، فوقـّع بحقي مذكرة عقوبة ظالمة ـ سامحه الله ـ فرضها وكيله ..
وكانت له نشاطات ومساهمات أدبية
وفكرية مميزة ، وعمل على تكريس عدد من اللقاءات والمؤتمرات التي استضافتها الكلية
في عهده ..
وبجهوده الشخصية استضافت الكلية
كثيرا من المبدعين والشعراء وعلى رأسهم : الشاعر محمود درويش ..
إضافة إلى رعايته للحفل السنوي
للطلاب الخريجين ..
في أواخر عام 1979 ، كنت أعمل في
مديرية التربية بحلب ، فالتقيته صدفة يتابع أمرا ما ، ورافقته حتى أنجزه ، ثم
اعتذر عن تلبية دعوتي له بزيارة مكتبي لانشغاله ..
4 ـ الدكتور مصطفى جطل :
عندما التقيته في مكتب د. فؤاد ، لم
نكن متعارفيْن بعد .. وكان عائدا من الإيفاد حديثا ..
بدا معتدا بنفسه ، واثقا مما لديه ،
وإن كان مشغولا في أكثر الأوقات ، في مكتبه ذي الباب الموارب أو المغلق عليه وعلى
ضيوفه ..
وقد لفتني ما سمعته منه مرة ، ونحن
في نقاش عن القصة والرواية في مكتب د. فؤاد ، حين قال : إن آخر عمل روائي قرأه ( في
ذلك الوقت ) ، كان إحدى روايات نجيب محفوظ التي مر عليها أكثر من عشر سنوات ..
المهم .. كنا في السنة الثالثة حين
بدأ يحاضر علينا عمليا في " حلقات بحث " لمادة علوم اللغة العربية
" النحو " ، التي كان يلقي محاضراتها علينا د. فخر الدين قباوة ..
وهي مادة ضخمة ، وكانت تمثل هي
وأستاذها عقبتين هامتين وصعبتي المراس ، تعترضان كل طلاب قسم اللغة العربية آنذاك
..
هو ودود وطيب ، بعكس ما يصفه كثير
ممن لم يقتربوا منه ، وإن كان سريع الغضب ، وتتغير كل ملامحه بحسب درجة فورانه ..
وسمعت وصفا يشبّهه بكتابه : "
نظام الجملة " ، سعة ، وشمولية ، وحرصا ، وصعوبة أيضا ..
لكنه عملي وذو طموح مفتوح المدى ،
وكأنه يحب المغامرة واستكشاف المجهول ، واقتحام الصعاب ..
في البداية ، سارت علاقتي بالدكتور
جطل ببطء ، ولم تشهد قفزات حتى بعد أن صار وكيلا للكلية ، ولم أدخل مكتبه زائرا
إلا بعد سنوات من ذلك ..
بعد تخرجي تقلبت الأيام بي سريعا ،
وغدوت قادرا على تقديم خدمة ما ، لأصدقائي وأساتذتي على مستوى مديرية التربية بحلب
ومدارسها ، ولاسيما أيام صدور نتائج امتحانات الإعدادية والثانوية ، حيث كان
بالإمكان استخراج النتيجة قبيل ساعات من إعلانها رسميا ، الأمر الذي يراه الآخرون
عملا ناجزا وخدمة تأتي قبل أوانها ، وهو في الواقع أمر أصغر من أن يحتسب خدمة على
أحد ..
وكنت أنا مَن يعرض هذه الخدمة على
أساتذتي تحديدا ..
وقد أديتها أيضا للدكتور جطل الذي تواصل معي عبر
د. فؤاد أولا ..
وعندما كثرت الطلبات الملحة عليه من
زوجته في اللاذقية بعد أن شاع خبر نجاح أخيها ، اتصل بي مباشرة ليملي علي أرقام
عدد لا بأس به من الطلاب لاستخراج نتائجهم ، وهم من أقرباء زوجته وجيرانها هناك ..
وكانت تلك بداية " تساقينا
الهوى " ..
إلى أن غاب عن الجامعة حين صار مدير
مكتب صديقه د. طنوس في القيادة القطرية ، ثم سافر إلى أكثر من بلد عربي للتدريس
فيه على ما أعتقد ، حتى عاد واستقر به المقام في جامعة حلب ..
وقبل سنوات ، كنت في زيارة لمبنى
رئاسة الجامعة ، فقالت لي الصديقة عزيزة حذيفة " مديرة مكتب مجلس الجامعة
" : ألا تريد أن تبارك لصديقك بمنصب وكيل الجامعة للشؤون الإدارية ؟
ذهبنا معا ، استقبلنا بود ، وتوقع
أني جنيت مبلغا ضخما من غربتي ، فضحكتْ عزيزة ، وعلقت أنا : لقد ردّتْ عليك ، فهي
تعرف تماما كم جنيت والحمد لله .. قال : لمَ أنت هناك إذن ؟!
تناولنا قهوتنا ، وودعَنا بحفاوة
فاقت استقباله ..
5 ـ الأستاذ علاء الدين زيتون : سقوط الرخ :
عرفته منذ العام الأول في الجامعة
.. درّسنا مقرر الثقافة القومية في أول سنتين ، ثم التاريخ في السنتين الأخريين ..
وكان بيننا سلام عادي أقرب إلى
الفتور ، إذ يتعاطى الأستاذ زيتون معنا كمن له ضربة لازمة على العالمين ، ولا
يتماس ـ كغيره من أساتذتنا ـ مع أحد ، مما أفقده " الشعبية " في أوساط
الطلاب ..
وكأنه يعلم بأنه سيصير مسؤولا في
يوم من الأيام ..
وحين صار الأستاذ علاء الدين زيتون
بالفعل أعلى مسؤول سياسي في جامعة حلب في أوائل الثمانينيات ، كان يعرف تماما من
أين تؤكل الكتف ، ومتى ، وأين ..
ففي ظل قانون التفرغ الجامعي
ومكافآت التأليف ، ارتأى أن يحوِّل " أملية جامعية " إلى كتاب جامعي ،
فقدّمها لمطابع الجامعة باسمه ، ليستفيد من فرصة " نسبة الكتاب إليه ، وليقبض
هو مكافأة التأليف التي ليست من حقه " ..
والأملية ، ليست له أساسا ، ولا هو
مؤلفها ، ولا هو مجرد شريك في تأليفها .. وما كان باستطاعته أن يفعل ذلك ، لولا
استغلاله الجشع لمنصبه ـ مع الأسف الشديد ـ ..
وهي بعنوان : محاضرات في التاريخ
العباسي والأندلسي للدكتور توفيق برو .
وصلت النسخة التجريبية المطبوعة من
الكتاب ، للدكتور فؤاد ـ وكان وكيلا للكلية ـ مع طلبٍ شخصي من " لاطشه "
، بتكليف من يقوم بتصحيحها من الأخطاء قبل الطباعة النهائية ..
وأظن أن الأستاذ علاء ترك لأبي
خلدون الحرية في تكليف من يراه مناسبا لهذا العمل (( الذي دأب عليه أساتذة آخرون
أيضا ، يفرضون أنفسهم على طلابهم المتميزين ليؤدوا لهم هكذا خدمة )) ، فارتأى أبو
خلدون أن أقوم أنا بتنقيحها طباعيا ولغويا ، " لأن ذلك سييسر لي أمورا عالقة
في الجامعة ، ولاسيما ما يخص مشروعي في الدراسات العليا " ..
قلت له :
ولو أني على يقين باستحالة الأمر في
العهد " الطنوسي " ، لكن ، بالنتيجة ، فإن الذي يطلب مني ذلك ، هو أبو
خلدون .. فسمعا وطاعة يا صديقي ..
في نسخته التجريبية ، لم يكن الكتابُ
منسوبا لصاحبه د. توفيق برو ، بل كان منسوبا صراحة لـ : علاء الدين زيتون ، واسمه
مطبوع على الغلاف الخارجي ، وثمة خديعة لا يمكن أن يكتشفها إلا مَن يقرأ المقدمة
حتى نهايتها ، أو مَن يعرف أصل الكتاب ، مثلي ..
والإشارة التي في آخر المقدمة تفيد بأن
" الكتاب هو محاضرات ألقاها زميله د. توفيق برو " ووجد فيها معينا جيدا
للطلاب ، فارتأى طباعتها بدل أن تبقى أملية !!!..
هكذا ، بهذه البساطة " لطش
" السيد علاء الدين زيتون الكتابَ من صاحبه وصادر له حقه في النسب والتعب
والمكافأة ، وليس له فضل فيه سوى كتابة المقدمة ، وأظنه كاتبها بنفسه ، لما فيها
من أسلوب اختلاس ومخاتلة يشبهانه ..
وسمعت قصصا أخرى في غير مجال ، ستر
الله على من ستر ..
والأستاذ
علاء ، هو نكبة كبرى حلت بفرع الحزب في الجامعة ، سبقتها نكبتان ، وحالة انقسام
خطيرة في القيادات ومحازبيهم ..
في ربيع 1985 ـ ربما ـ كنت مارا
أمام مبنى رئاسة الجامعة ، حين توقفتْ سيارته السوداء بجانبي ، وأومأ لي سائقه
" العكيد أبو اصطيف " مبتهجا ، أن أتوقف ، قبل أن يطل معلمه من نافذتها
مسلما عليّ ، وقال : إنه يرغب أن أزوره في مكتبه في أي وقت من أي يوم اعتبارا من
الغد ..
ولم أستطع تخمين سبب هذا الطلب
والحب المفاجئ ، وأنا لا علاقة لي ـ آنذاك ـ بالجامعة ، لا من قريب ولا من بعيد ،
كوني أؤدي خدمة العلم ..
في مكتبه ، وبعد أن قـُدِّمَ لي
فنجان القهوة المرة ، قال :
إنه يعرف قدرتي في التأثير والضغط
الأدبي على بعض المعارضين له في كلية العلوم ، وهو يطلب مني التدخل لديهم ، لمنحه
أصواتهم الانتخابية للفوز بعضوية المؤتمر القطري للحزب ، وهو " لن ينسى ذلك
لي ، ولن يقصر معهم في دعمهم ومساعدتهم فيما بعد " ..
وعدته بالمحاولة ، مضيفا : إنني لا
أملك تأثيرا مباشرا ولا غير مباشر على أي أحد منهم ..
وكان يشعر أنه في موقف ضعيف ومحرج ،
وهو أكبر مسؤول سياسي في الجامعة ، وسيكون أكثر حرجا لو فاز عليه مرشح آخر ، هو
طالب جامعي ومحارَب ومحاصَر ، وليس له من المسؤولية أي شيء ..
وكان هذا الاحتمال كبيرا جدا ، وهو
ما دفعه للاستنجاد بي وبغيري ربما ..
وفي يوم الانتخابات التي جرت في
كلية الآداب ( الحقوق حاليا ) ، كنت من أوائل من دخل القاعة بعد الانتهاء وإعلان
النتائج ، وصرخت في وجهه مرارا : " سقط الرّخ ، سقط الرّخ " ، فتجنبني
وخرج مع بعض أنصاره ..
6 ـ الدكتور بكري شيخ أمين :
لم يكن له من الحضور الهام بين
الطلاب ، رغم أن ابنته " غادة " كانت زميلتنا في نفس الدفعة ..
لا أعرف سببا لذلك ، ولم أبحث ..
لكنه كان وسيما أنيقا حتى في طبعات
كتبه ( التعبيرية والتصويرية ) ..
يحب الإتيكيت أيضا .. عيناه ملونتان
، تلوبان كالمغزل ، وشعره مصفف بعناية ، وبدلته دائمة الإحكام ..
لم أره غير هادئ ، في مشيته وفي
محاضراته وفي الرد على أسئلتنا عقب المحاضرات ..
وقد عاب عليّ مرة أنني أطقطق أصابعي
ـ بحكم الاعتياد ـ قربه ، ولم يؤثر انتقاده على اهتمامي بمحاضراته ، والتفاعل معه
فيها ..
غاب عن الكلية مسافرا خارج القطر
لسنوات طويلة ، ولم ألتق به مذ ذاك ..
7 ـ الدكتور أحمد ارحيم هبّو :
حاضَرَ فينا في أكثر من مقرر على
مدار السنوات ، لكني لم أحضر له أي محاضرة ..
وبقيت علاقتنا محكومة بطبعه الهادئ
جدا ، ومحدودة بالوقت الذي نلتقي فيه في المكتبين الصديقين ..
وحتى عندما صار عميدا ، تبنى د.
فؤاد مقترحا لي ، بندب صديقي من مديرية التربية إلى الجامعة في أوائل الثمانينيات
، ودخلنا معا عند العميد لتوقيع الطلب وإرساله إلى رئاسة الجامعة لاستكمال
الإجراءات ، فوقعه وهو يقول لي :
أنا وافقت على مسؤوليتك ..
ولم أعرف من ملامحه وقتها ، إن كان
جادا أو ممازحا ..
زرته مرة وحيدة ، مهنئا بتعيينه
أمين فرع الحزب بالجامعة ، ولم أكررها ..
ورأيت صوره مؤخرا بين الحاضرين في
مناقشة رسالة جامعية ، ورأيت كم فعلت السنوات فعلها بكل مَن عرفت منهم ، ولعلها
فعلت بي أكثر من غيري بكثير جدا ..
ممن لم نتتلمذ عليهم :
1 ـ الدكتور عصام قصبجي :
تغمده الله بواسع رحمته ..
فوجئت مؤخرا على صفحته في "
الفيس بوك " بانتقاله إلى رحمة ربه ، وقد آلمني ذلك حقا ، لما كان بيننا من
أريحية هي أقرب إلى علاقة " طالبين زميلين " كوننا متقاربين في السن ،
وكان قد عاد من الإيفاد بعد أن صرنا في نهاية المرحلة الجامعية ، فلم يحاضر علينا
، وإنما نشأت هذه الحالة بيننا من خلال لقاءاتنا المشتركة إياها ..
وتعززت خلال عملي في رئاسة الجامعة
عام 1979 ، وازدادت فيما بعد عام 1989 عندما كان المرحوم رئيسا لقسم اللغة العربية
، وتم تكليفي بإلقاء محاضرات في اللغة العربية لغير المختصين في أكثر من كلية
ومعهد ..
وكثيرا ما كنا نلتقي صدفة في الكلية
، فنمضي معا إلى مطبعة الجامعة ، ليتابع طباعة كتبه " وكانت المطبعة في قبو
كلية الآداب " ، ويرافقنا الأخ المحترم الفنان والخطاط مطيع اليازجي ..
وكنت أرى بينهما قاسما مشتركا من
الهدوء والأريحية والابتسامة اللطيفة الأنيقة ، التي لا تغيب عن مبسميهما ..
رحمك الله ، وجعل الفائدة من علمك
صدقة جارية تحسب في ميزان أعمالك الصالحة ..
2 ـ الدكتور محمد ألتونجي :
أيضا ، د. محمد ألتونجي لم يحاضر
علينا في دفعتنا أبدا ..
ولم يكن متفرغا للتدريس فقط ، إلا
بمقدار ما يستحوذ على " معجبات " له ، بقيافته وهندامه و "
دونجوانيته " ، حيث كان يتباهى بأنه يراعي كل شيء في تناسق ألوان لباسه ، حتى
السّبحة التي يحملها في يده .. ويلبس حذاءه بلون بدلته ولو كانت زرقاء أو خضراء ..
وشخصيته متعاكسة تماما مع شخصية ابن
خالته د. عمر الدقاق ..
وكان " مؤلـّفا " غزير
الإنتاج بالنسبة لزملائه ، وهو العمل الأهم له ، اقتصاديا ، ربما ..
وهو الوحيد بين أساتذتنا كان يملك
سيارة خاصة ..
صودف أن ركبت معه مرة ، فحكى لي عن
شهادتي دكتوراه حصل عليهما ، وعن عمله في ليبيا ، وعن غرفة خاصة في " الفيلا
" الجديدة بحلب ، جعلها بيتا مبردا للمؤونة ..
ولم أعد أذكر حقا ، كيف توطدت
علاقتنا ، ونمت ..
لكنه دعاني إلى مكتبه ..
وحين زرته ، أهداني من مؤلفاته :
المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس
الأعشى شاعر المجون والخمرة ..
وفيما بعد أهداني أيضا :
دراسات في الأدب المقارن .
دراسات في الأدب الجاهلي .
من أساتذتنا أيضا :
ـ الدكتور فؤاد المرعي ، وقد خصصته
بمقال منشور بعنوان : الدكتور فؤاد المرعي ـ قطب الرحى وواسطة العقد ..
ـ الدكتور محمد حموية ، وقد خصصته
بمقال منشور بعنوان : الدكتور محمد حموية
ـ تحية حب ووفاء ..
ـ الدكتور فخر الدين قباوة ، وقد سبق
أن خصصته بمقال منشور بعنوان :
الدكتور فخر الدين قباوة ـ الأستاذ
والعلامة والبحاثة ..
ـ والدكتور وهيب طنوس : وكذلك خصصته
بمقال منشور بعنوان :
عوقبت بعشرة أضعاف ما أستحق ..
الجمعة ـ 18/11/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق