الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

المعسكر والمقال وصديقي وأنا


المعسكر والمقال وصديقي وأنا

 1 ـ المعسكر صيف 1975 ..

طرأت تغيرات عديدة على الأوضاع العامة للمعسكر ، فتغيرت قيادته ، وخُصِّصَ بقطعة أرض شرق مدرسة المشاة ، وبدت قيادته الجديدة ، مهتمة أكثر بالتدريب اليومي والرياضة والنظام العسكري المتشدد ، وبمتابعة الانضباط العام والتقيد بمواعيد التدريب والطعام وما إلى ذلك ، مما فرض مزيدا من الصرامة القاسية ، فوق ما نحن فيه من قسوة المكان والظروف ..
لكن لم يتغير فيه شيء تقريبا ، عن معطيات معسكر العام الماضي ، ولاسيما منظر الخيام والمقطورات والقصع والقطن المضغوط والغبار ..
وإن شاعت عقوبة السجن وما يتبعها من عقوبات إضافية كـ " السخرة " ..
كما شاعت عقوبة " حلاقة " شعر الرأس على الصفر ، كعقوبة إضافية للسجن ، أو كعقوبة فردية على " الطالع والنازل " ..
وغدا منظر الرؤوس الحليقة " ظاهرة " واضحة ، مع التزايد اليومي في أعدادها ..
فقد كان قائد المعسكر دائم التجوال في سيارته اللاند روفر ، مصطحبا معه الحلاقين المهرة ، وكل من يشاهده من الطلاب " يتبلاه ويتصيده " ، ليأمر الحلاق بـ " إزالة شعره " عن الوجود ، وقد يرسله إلى السجن أيضا ..
وكأنه أراد أن يكتسب سطوة يستعيد من خلالها الانضباط العام المفقود في المعسكر ، وهو القادم إلينا من منصب " قائد سلاح المدفعية " ، وشتان بين انضباط الجنود وانضباط الطلبة ..

وحين مُنِحْنا مغادرة جماعية لأربع وعشرين ساعة ، في منتصف أيام المعسكر تقريبا ، كانت للاستحمام بالدرجة الأولى ، لعدم توفر الماء والحمّامات الصالحة والكافية في المعسكر ..

2 ـ زيارة تسبّبت في رسوبي :

في البيت ، أبلغتني زوجتي :
أمس ، اتصلت " غزالة " أخت صديقك " يوسف أخرس " ، بطلبٍ من أخيها ، لتخبرك بوجوده في مستشفى حرستا بدمشق ..
 ( وكان ما يزال طالبا ضابطا في الكلية الحربية ، وقد ظهر عليه المرض منذ أشهر ، من خلال جحوظٍ واضح في عينيه ) ..
سافرتُ إلى دمشق فجرا ، اتصلت من الكراج بصديقنا أبي اصطيف ، ونسقت ذهابنا إلى المشفى معا ..  
وهناك ، صَعَقنا سوءُ حاله ، وجحوظ عينيه ، حتى كدت لا أعرفه ..
وقد أدرك أن ترددي في السلام عليه للوهلة الأولى ، نابع من عدم معرفته بعد تدهور حاله ..
فعاتبني بمرارة الإحساس بدنو الأجل : أمَا عدت تعرفني ؟!
تجلدتُ كي لا أزيد عليه آلامَه وأحزانه ، وإن لم يكن خائفا من الغد ، لإيمانه الشديد بقدَره ، وهو مستقر بعد أن غيروا له دمه قبل أيام ، وقد طمأنه طبيبه " نزار مصاصاتي " بأنه سيتحسن عاجلا ..
أنا وصديقنا أبو اصطيف ، أبدينا له كل التفاؤل ، وبأن أصدقاءنا الآخرين حمّلوني إليه تحياتهم وتمنياتهم ، وأنهم ينتظرون خروجه من المشفى معافى ليلعبوا معه " بالطرنيب ، ويخسّروه " ..
لكن حاله ـ مع الأسف ـ لا تبشر ..
لم يكن اسم د. مصاصاتي غريبا على مسمعي ، سمعته سابقا من المرحوم أخي يصفه بـ " الصديق والأخ " ..
قلت ذلك ليوسف ، وقلت له : أريد أن أعرف مكان عيادته لأزوره وأوصيه بكَ خيرًا ، وأطمئن منه مباشرة عنك ..
استدعى الممرضة ، فأعطتني عنوان العيادة في دمشق ..
ودعناه ، وذهب معي أبو اصطيف إلى عنوان العيادة ، فقيل : إنه مسافر ولن يأتي اليوم ..

..................

على باب المعسكر ، وفور وصولي متأخرا ، انضممت إلى نقابة " الرؤوس الحليقة " ، وعلمت من الزملاء ، أنهم أدّوا امتحانا كتابيا ومفاجئا وسريعا و " كيديا " ، في يوم غاب أو تأخر فيه كثيرون عن الالتحاق بعد " معجزة " المغادرة ..
ليس مهما ، فقد رأيت صديقي واطمأننت عليه ، ولم أكن أعلم بالطبع ، أنه لقاؤنا الأخير ..
لكنه كان وانتهى الأمر ..
بعد قرابة عشرين يوما ، توفي صديقي يوسف بسرطان الدم ..
وضجت أمه وأخواته بالنواح والنحيب حين رأينني جانب الجثمان ، وتعانقت أنا وأخوه الأكبر " عمر " منتحبيْن ..  
ثم واريناه الثرى في قريته " معارة الأرتيق " قرب حلب ..
تغمده الله بواسع رحمته ..

خلـَّفَ رحيله آثارا صعبة جدا عليّ ..
فهو ماثل لي دوما ، ولم نفترق منذ سنوات ، وأمضينا عامين دراسيين جنبا إلى جنب في المرحلة الثانوية ، وعملنا معا في نشاطات طلابية وثقافية متعددة ، رغم أن لكل منا هواه السياسي الواضح ..
وبعد الانصراف من الدوام المدرسي ، كنا نتفق على موعد اللقاء التالي ، لأنه لا توجد لدينا هواتف أرضية ولا خليوية ، ولا يمكن أن نترك لقاءنا للصدفة ..
وإذ يأتي إليّ ، تكون غرفة " المكتبة " جاهزة ..  
ففيها ذاكرنا معا دروسَنا على مدار العامين ، وفيها تكون سهرة الخميس مع بقية أفراد الشلة ، نقضي شطرا من الليل بين لعب الورق والجدل الذي لا ينتهي ..
وقبيل انفضاض السهرة ، يكون بعضهم قد اختار من المكتبة الكتابَ الذي يود قراءته خلال الأسبوع القادم ..
وليوسف في هذه الغرفة سريره الخاص ( سرير عزوبيتي ) ، يقيّل وينام براحته ، وخاصة في ليالي الشتاء الزمهريرية ..
وقد عسكرنا فيها أياما قبل امتحان الثانوية ، حتى جاء عمر ليطمئن عن أخيه يوسف ، ويتأكد من أن غيابه عنهم ليس حردا ولا انزعاجا ..
وفيما بعد ، أسر لي عمر ، أنه : (( في بداية الليالي التي نام فيها يوسف عندك ، كنت أرتدي الكبوت العسكري والجزمة ، وأتلثم من شدة البرد ، وأذهب مشيا إلى بيتكم ليلا ، وأختلس النظر إلى غرفة المكتبة ، في أوقاتٍ يتأخر فيها يوسف عن العودة ، لأطمئن عليه وأعود في " نصاص الليالي والتلج عميندف ندف " )) ..  
وبعد أن التحق يوسف بالكلية الحربية ، كان يأتي إلى بيتنا من حمص مباشرة ، قبل أن يذهب ليرى أمه وأخته وأخاه وعائلته في بيت أخيه ..
وقد ينام في " سريره " ليذهب إليهم في الغد قبيل العودة إلى حمص بسويعات ..
كان قنوعا صبورا ، شهما ، عفيفا ، حييا بما لا يُقاس ، ذا مروءة ونخوة وتعقل وتفاؤل ، يؤمن بقدراته ويعمل بإخلاص وجدٍّ وكدٍّ لتنميتها ، لكن " حظه خائن " كما كان يقول ..
وكاد تعثره في الثانوية العامة ، أن يحبط معنوياته إلى الأبد ، ويفقده حلمه في أن يجد عملا شريفا كريما سريع المردود ، مما دفعه إلى الكلية الحربية بعد النجاح ، فهي الأسرع في تأمين بدائل مناسبة ولو في حدها الأدنى ، لا طمعا ولا تباهيا ولا حبا بالنفوذ ، بل ، ليتخلص من عملٍ مضن يقوم به في عطلة الصيف ، وليعيلَ نفسَه على الأقل ، وليقضيَ أطول وقتٍ خارج البيت ، كي يمارس أخوه وأسرته حريتهم دون وجوده الدائم " المحرج " ، إذ يكفيهم وجود أمه وأخته معهم ..
ولم يمهله أجله شهرين آخرين لتراه أم عمر ضابطا ، ولم تنقطع صلاتي بأخيه عمر لسنوات بعد وفاته ..
وسعيت بعدئذ لمقابلة المقدم الدكتور نزار مصاصاتي بناء على رغبة عمر الملحة ، لطلب المساعدة على توصيف حالة وفاة أخيه في " التقرير الطبي للوفاة " ، لكنه اعتذر بلطف عن تلبية الطلب ، رغم أنه رحب بي طويلا بعد أن شرحت له مقولتي التي بدأت بها حديثي معه :
" أنت صديق أخي ، وأرسلني إليكَ أخو صديقي .. وصديقانا شهيدان " ..
رحمك الله يا يوسف ، فوالله ، لقد كان لك من اسمك نصيب وفير ..
أيها الصديق الشهيد ..
لقد عشنا أحلامَنا معا ، ووُئدت أحلامُنا معا ..
فليس الراحلون ـ أحيانا ـ بأقلّ حظا من المقيمين ..

3  ـ أزمة " مقال " في المعسكر الاستثنائي :
  كانون الثاني 1976

 ومع بداية العام الجامعي الجديد ، ذهبتُ إلى الكلية لأدفع رسوم التسجيل بشكل اعتيادي كما يحدث كل عام ..
ففوجئت أني راسب في السنة الثانية ، لرسوبي في مادة التدريب العسكري ، فوق المادتين اللتين أحملهما : التاريخ ، واللغة الشرقية السريانية ..
كانت صدمة حقيقية ، استنفرتُ لها ، واستغثت بالمكتب الإداري لاتحاد الطلبة ، فاستنفروا المكتب التنفيذي في دمشق ، والنتيجة :
" لا تراجع ، ولا حل " ..
حسبنا الله ونعم الوكيل ..
وكما يتيحُ اللهُ للفضيلةِ المطويةِ لسانَ حسودٍ لينشرَها ، أتاح لهذه القضية أن تـُحَلَّ ..
فبعد تفاعلات وإرهاصات ، صدر مرسوم : " يُخضِعُ الطلبة الراسبين في مادة التدريب العسكري ، لمعسكر استثنائي ، إذا كان نجاحُهم فيها يعدّل وضعَهم انتقالا أو نجاحا " ..
وحُدِّدَ موعد المعسكر في كانون الثاني 1976 ..
وكان الشتاء قاسيا جدا ، فكيف إذا كان المعسكر في ثكنة هنانو ، الرابضة على مرتفع مكشوفٍ للمدى والريح ، في شرق المدينة ؟! ..
وهي ثكنة قديمة بناها العثمانيون ـ كما يوحي طراز بنائها ـ  ، وطورها الفرنسيون قليلا بما يلبي حاجات جندهم وخيولهم ..
وبينما نحن في ما يسمى بـ " قاعة المطالعة " ـ وهي اسطبل معدل ـ ، كتبت مقالا " من تحت الدست " عن التدريب الجامعي وأهدافه السامية التي لا تتماشى معها ظروفنا القاسية جدا ، المحيطة بنا في مكان " أثري " كهذا ، يفتقد لكل شيء ، كل شيء ..
أرسلتُ المقالَ إلى جريدة البعث بدمشق ، ونسيته نهائيا ، لأنني غير واثق من نشره ..
( مع الأسف لم أعثر في أرشيفي على نسخة منه ) ..

وبعد أيام قليلة ، كنا في الدرس الأول ، وفي نفس القاعة ، حين دخل قائد المعسكر المقدم حسين عايدي ، يسأل عني ، ثم طلب مني مرافقته ..
وفي الطريق إلى مكتبه ، سألني كأنه يريد أن يتأكد : أنت فلان ؟؟
قلت : نعم ..
قال : أنا أعرفك من الشباب " الكويسين " ، ماذا فعلت ؟
كنت خالي الذهن تماما ، فقلت مستغربا : لم أفعل شيئا .. ماذا هناك ؟
قال : جاء العميد رئيس فرع التدريب الجامعي ، ويريد أن يراك ، وهو غاضب جدا منك ..
في المكتب ، ليس ثمة سوى عميد ونقيب .. إذن العميد هو رئيس الفرع ، والنقيب أعرفه بالشكل ..
أمرني العميد بالجلوس بعد أدائي التحية العسكرية ..
جلست حيث أشار ..
الثلاثة أمامي ، أم أنا أمامهم ؟؟
عميد ومقدم ونقيب ..  
أ أنا في محكمة عسكرية ؟!
لحظات ثقيلة جدا من الصمت ، وأنا أشرّق وأغرّب باحثا في رأسي عن سبب وجودي أمامهم ، وكل ما كنت أخشاه ، أن أكون ضحية " تقرير " ما ..
بدأ العميد كلامه بنبرة عالية لِمَا " سببته له من حَرَج أمام سيادة اللواء مدير إدارة التدريب الجامعي " حين سأله بعصبية عن " كاتب هذا المقال ، وعن صحة المعلومات الواردة فيه ، ومحاسبة صاحبه إذا كان كاذبا دعيًّا ويتعمد التشهير " ..
وأضاف : كيف نشروا لك هكذا مقال ؟ من هو واسطتك ؟ ومن هو الشخص الذي تبناه ؟ أريد أن أعرف كل ذلك ..

آهاااااااااا .. بهذه السرعة نشر المقال ؟!  
للوهلة الأولى ، صدمتني سرعة النشر أكثر من كلام العميد ..
فقد أرسلته بالبريد العادي إلى الصحيفة في دمشق يوم السبت ، فنشر يوم الثلاثاء ؟! .. أيعقل ؟!
إذن ، وفور نشره بدأت التفاعلات من دمشق التي توزَّع الصحف فيها باكرا ، إلى حلب التي لم تصلها الصحف بعد ..
لكن " سيادة اللواء " أطلعَه على مضمون المقال ، وطالبَه بسرعة التحقيق والرد ..

تكلم النقيب موجِّهًا كلامَه للعميد : يا سيدي ، إن المعلومات التي وصلتني عن حضرة الطالب ، لا توحي بأنه ممن يريدون التشهير ولا يقصدونه ، وفي كلامه كثير من الواقعية والصحة ، وقد عَرفت عنه اهتمامه بالنشاط الأدبي وتعاطيه الكتابة ، وما ورد في المقال هو من هذا القبيل ..
بدا أن الأمر مرتبٌ بينهما .. فهذه لم نألفها " حضرة الطالب " ؟!
ثم إن العميد يشد الحبل ، والنقيب يرخيه ..
وهما متأكدان من دقة وصحة كل ما ذكرته ، ولا حيلة لهما في إدانتي بمضمونه إلا بالتزوير ، ويبدو أنهم في غير وارده ، لاسيما أن ما جاء في المقال ، أقلّ سوءًا بكثير مما يعرفونه في الواقع ، وهذا دليل قاطع وكافٍ لإدانتهم به في تحقيق " موضوعي " ..
وحين طلب مني الرد ، قلت :
ـ لقد نشرتُ المقال في جريدة رسمية ، ولا أعرف أحدا فيها ، ولو لم يكونوا مقتنعين بمضمونه لما نشروه ..
ـ وأنا مسؤول عن كل كلمة كتبتها .. فإن رأيتم كلامي مجافيا للحقيقة والواقع ، أو فيه مزاعم وافتراءات ، فأنا مستعد لأي حساب ..
ـ وبدل أن تحاسبوني " أولا " ، أرجو أولا ، أن تتخذوا إجراءات عملية لإنقاذنا من سوء الأحوال التي نحن فيها ، والتي كانت الدافع وراء مقالي ..
أشعل العميد سيكارة ، وقال بهدوء ولوم : لو أنك ناقشتنا في مقترحاتك ، أو طلبْتَ منا تنفيذها ولم ننفذها ، لكان من حقك أن تنشره .. لكنك لم تطلب ..
قلت : " ليس من السهولة بمكان نقل مقترحاتي إليكم ونحن هنا ، بينما لم يسألنا أحد عن ظروفنا وأحوالنا ، ولم يسأل عنا أحد ..
" وقد أنهكنا البرد الشديد والرطوبة وعتمة اسطبلات تنز سقوفها وجدرانها ماء ، ولا نوافذ لها ..
" حتى صرنا نخيّر أنفسنا ـ مكرَهين ـ بين الرسوب والمرض .. فاختار بعضنا الرسوب وغادروا المعسكر " ..
قال النقيب : يا حضرة الطالب ، للضرورة أحكام ، فقد اضطررنا لاختيار هذا المكان لإجراء المعسكر فيه ..
فهو ـ كما تعلم ـ معسكر استثنائي ولا يتزامن مع العطلة الانتصافية للمدارس كي نقيم المعسكر في إحداها ، ولا يوجد مكان آخر داخل المدينة يؤدي الغرض ..
ثم ـ وكأنه أراد أن نتوقف عن التصعيد عند هذا الحد ـ التفت إلى المقدم وقال : سيدي ، ألا يوجد شاي عندكم ؟

ومع الشاي ، انفرجت الأسارير ، وزال اكفهرار الوجوه وقسوتها ، ودار حوار هادئ بيننا ، لمست فيه عمق الأزمة والحرج الناجمين عن وصول المقال لأعلى قيادة في البلد ..
وحين انتهى اللقاء ، أعطاني العميد رقم هاتفه الخاص ، وطلب مني زيارته في أي وقت ..
وقال النقيب : أخوك أبو عزام ينتظر زيارة منك ، فمكتبي أمام مكتب سيادة العميد ..
خرجت من المكتب وراءهم ، فأسرع إلي عدد من الزملاء الذين أقلقهم استدعائي من قبل قائد المعسكر شخصيا ..

وبالمحصلة :
كانت الفائدة التي نجمت عن المقال ، محدودة بالإمكانيات المتوفرة والمتاحة على صعيد المكان والتجهيزات ، لكنها انعكست إيجابا على علاقتنا بجميع الضباط والمدربين ..
ونشأت حالة صداقة حقيقية بيني وبين رئيس فرع التدريب الجامعي العميد إبراهيم يوسف قاورما " الذي توفي بحادث سير بعد سنوات قليلة رحمه الله وأحسن إليه " .. 

وفي مكتب العميد الكائن في مبنى الهيدروليك سابقا ـ وهو كلية المعلوماتية الآن كما أظن ـ كان النقيب أبو عزام يدخل على الخط ، فيضفي على لقاءاتنا جوا من الألفة والمرح والنكتة " المهضومة " ، وكان وجودي معهما كاسرا لحدّة الحالة العسكرية بين الرتبتين ..
(( والنقيب أبو عزام ضابط احتياط ، وذو شخصية مثقفة وناضجة ولطيفة ومرحة وعقلانية ولبقة ، وقد استمرت علاقتي معه طويلا ، حتى غدا برتبة عقيد ، وكلف مديرا لمديرية " الحرس الجامعي " في رئاسة الجامعة )) ..

طبعا ، لم يبقَ أحد في فرع التدريب الجامعي بحلب ، لم يسمع بالمقال وصاحبه ..
فتوطدت علاقاتي مع ضباطه أيضا ، على غرار ما هي عليه مع الأساتذة والموظفين ، والطلاب ، بطبيعة الحال ..
وإذ تمت تسوية الأوضاع بعد النجاح في مادة التدريب العسكري ، صدر قرارٌ بالنقل إلى السنة الأعلى مع نهاية الفصل الجامعي الأول ، وصرت ملزما بحضور المعسكر الشتوي التالي لذاك مباشرة ، إكمالا لمواد السنة الثالثة التي انتقلت إليها ..

أقيم المعسكر هذه المرة في ثانوية الكواكبي بحلب ، في شباط من عام 1976 ، وأنيطت بي مهمات ثقافية وتنظيمية وطلابية ، جعلتني أقرب لقيادة المعسكر من كوني طالبا فيه ..

وكذلك في المعسكر الصيفي الأخير صيف عام 1976 ..
عُيِّنتُ عضوا في لجنته الثقافية ، مع عبد الستار السيد أحمد وعبد الرزاق الخشروم كمشرفيْن من خارج المعسكر ..
وصار المعسكر " منتدى " ، يزوره المسؤولون والقيادات الحزبية ، وتقام في أمسياته نشاطات متنوعة ..
واتخذ هيئة مقبولة قياسا بالسنوات السابقة ..
فتم إنشاء البوابة والطرق الرئيسية والساحات ومكاتب للقيادة والضباط ، وعدد من المباني والمستودعات والمطاعم والحمامات ، وصار الوضع أكثر تنظيما ..
بذلك أكون قد أديت ثلاثة معسكرات في سبعة أشهر ..

الأربعاء ـ 30/11/2011


"" صور معسكر صيف 1975 منشورة في الألبوم السابق ، بعنوان :
ألبوم ملحق بمقال : من التدريب الجامعي .... "" 

"" قد يكون ألبوم الصور الخاص بالمرحوم يوسف أخرس أكثر بيانا وتوضيحا لحالة الصداقة التي جمعتنا ، مؤملا أن تزوروه وتطلبوا له الرحمة والمغفرة ..
رحم الله والديكم أجمعين .. "" وشكرا . 



























الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

جامعة الشرق الوسط


جامعة الشرق الوسط

 إن القرار " العروبي " بفرض الحصار والحرب الاقتصادية على سوريا اقتداء بـ " سلفهم الأمريكي الصالح " :
1 ـ يؤكد أن الحصار الذي فرضته أمريكا على الشعب العراقي هو حصار " عروبي " بأدوات أممية أمريكية ..
2 ـ ويؤكد أن الحصار الذي فرضته أمريكا على الشعب الليبي هو أيضا حصار " عروبي " بأدوات أممية أمريكية ..
3 ـ ويؤكد أن الحصار الذي فرضته أمريكا على الشعب السوري منذ السبعينيات هو حصار " عروبي " بامتياز بأدوات أممية وأمريكية ..
4 ـ ويؤكد أن الحصار الذي فرضه الصهاينة على غزة هو حصار " عروبي " أولا وآخرا ، وبامتياز أيضا ، بإرادة " عروبية " وبأدوات صهيونية ..

وعليه : فإن كل أنواع الحصار التي فرضت على الدول العربية المذكورة إنما هي استجابة لرغبات " عروبية " و " شقيقة حتى النخاع " ، بل هي تنفيذ " لشهوانية عروبية " يدفعون المليارات لمن يقوم بتنفيذها نيابة عنهم ..
 دليلنا على ذلك : أن العراق وليبيا ـ على الأقل ـ دُمِّرَتا بأموال عربية نفطية ..
وأن كل تلك العقوبات فرضت أمميا : أي في مجلس الأمن ، ما عدا بعض الحالات الفردية التي تقوم فيها أمريكا أو أوربا بفرض عقوبات إضافية أحادية الجانب ..
وعندما شلّ الفيتو الروسي الصيني القوة الغاشمة لمجلس الأمن ، عادوا " مكرَهين مهزومين " إلى المنظمات الإقليمية " العروبية المحترمة " لتأخذ دور مجلس الأمن وتحل محله ..
والتجربة الأخيرة حيال سوريا أكبر برهان ..
فهي سابقة كيدية لئيمة حاقدة ، تحدث لأول مرة في تاريخ الجامعة التي ظلت طيلة حياتها في سبات أمين وآمن ، كونها إنجليزية الصنع ، أمريكية صهيونية الهوى " ولا فخر " ..
وقد فعلتْ ذلك ، بعد أن جمّدت عضوية سوريا فيها ، واستبدلت مقعدها بمقعد " عصملي إنكشاري " جلس فيه وزير خارجيتهم " الباب العالي والوالي العتيد " ..
(( هنيئا لكم أيها " الأشقاء " )) ..
إن الجامعة العربية ـ بدعم غربي أمريكي سافر ـ تحاول أن تلتف على الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن وبطرق استفزازية وغير شرعية :
1 ـ انتقاما من أصحاب الفيتو المشترك ، بعد أن فشل هؤلاء في ليّ ذراعهم ، وبعد أن رفضوا كل أنواع الضغوط التي مورست عليهم لتغيير موقفهم من الأزمة السورية ..
2 ـ وتنفيذا لإرادة الناتو والأطلسي ، وتمهيدا لضرب آخر المعاقل المقاومة وكسر حلقة الوصل التي تهدد الصهاينة ..
4 ـ ولمزيد من تفتيت المنطقة لصالح الكيان الصهيوني والمشروع الأمريكي المأزوم والمهزوم على صعيد منطقتنا على الأقل ..
إن ما تفعله الجامعة العربية إنما هو محاولة قذرة لتنوب عن الناتو في حصار سوريا وتدميرها ، بدلا من مجلس الأمن المكبّل بالفيتو ، ولإنقاذ السمعة السيئة للمجلس ، ولحفظ ماء وجه دوله الاستعمارية ، بعد أن خيّب الفيتو فألها في تدمير سوريا خدمة لمشروعهم ولأذنابهم وعملائهم ..
إنها حرب تآمرية مشتركة : كانت القرارات فيها أممية والتنفيذ عربيا ، فصارت القرارات عربية والتنفيذ عربيا ، و" الحمد لله الذي لا يُحمَدُ على مكروه سواه " ..  
فأي دور إجرامي تقوم به هذه الجامعة !!
وأي قذارة تمارسها وهي تتعامى عن كل جرائم العالمين الأقربين والأبعدين ، وتوغل في التآمر لانتهاك سيادة وأمن سوريا وشعبها !!..
ألم يكفها ملايين الشهداء على مذبحها الحرام ؟!
أين هي من غزة ولبنان والصومال والسودان واليمن والبحرين ؟!

ولأن العاهرات أكثر الناس تغنيا وتشدقا بالعِفة والشرف ، أثبتت الجامعة العربية عهرها اللامحدود وهي تساهم في استجرار التدخل الأجنبي لتدمير سوريا ، كما سبق أن فعلوا في كل مكان من الوطن العربي بدءا من فلسطين والعراق ولبنان والسودان ، وليس انتهاء بليبيا ..
فإذا باتت الجامعة " تشرعن " التدخل الأجنبي في دولها ، وتستجر الناتو والأطلسي لضرب الشعب العربي وتدمير قواه ، وتدفع لهم التكاليف بـ " حبا وطوعا وبطيب خاطر " ، وتستبدل العضوية السورية فيها بعضوية " عصملية " ، بقي لها شيء واحد ننتظر منها أن تفعله حتى تثبت صدق ولائها وانتمائها ، وهو أن :
تغير اسمها إلى " جامعة الشرق الأوسط " ..
وأن تقبل كيان الصهاينة عضوا عاملا " فاعلا فيها " ، وشرفيا " فوق العادة " ، لتهنأ به ، وتستلذ بقربه ودفئه وحنانه ..

الثلاثاء ـ 29ـ 11 ـ 2011

الجمعة، 25 نوفمبر 2011

من التدريب الجامعي إلى الكلية الجوية


من التدريب الجامعي إلى الكلية الجوية


 نحن في صيف 1974 ..
وفي نهاية السنة الأولى من الجامعة ، التحقنا بمعسكر التدريب العسكري الجامعي الصيفي الأول ، الذي تمت ترتيباته على عجل ، واختير مكانه في " مدرسة المشاة " بالقرب من حلب ، ضمن ظروف جوية قاسية ، وحالة نفسية صعبة ، كونها التجربة الأولى لنا وللمسؤولين عنا ، كأول دفعة تنفذ المرسوم الذي أحدَثَ التدريب العسكري الجامعي ، بعد حرب تشرين الأول 1973 ..

1 ـ البداية : 

وهناك ، قسّمونا إلى مجموعات ، وسلموا أفراد كل مجموعة خيمة ومستلزماتها وأسرّة وقصعا للطعام ..... 
واستلم كل منا بعض المهمات الفردية الخاصة به ، كاللباس والحذاء العسكري والمَطرة ، وكمية من القطن المضغوط ، وحرامات وغلاف فراش وغلاف وسادة ..
وقيل لنا : روحوا " دبروا راسكم " ..
كيف سننصب الخيمة ؟ وكيف ستتسع لثمانية أسِرّة ؟ وكيف سنندف القطن وهو مضغوط كالرصاص ؟ وكيف سنحشوه في غلافي الفراش والوسادة ؟ وكيف سنخيط فوهتهما ؟! ألله تعالى أعلم ..
وَوُزعت علينا المهمات الفردية ( البدلة والبوط ) عشوائيا ، لا على التعيين ، وقيل لنا : تبادلوها فيما بينكم حسب مقاساتكم ..
وهكذا فعلنا ، لكن ، ظل هندامنا كاريكاتيريا رغم كل عمليات التبادل والتجميل الآني ، ولم يتحسن الهندام إلا بعد أول مغادرة للمعسكر ..
أما الأرض التي سننصب خيامنا فيها ، فكانت حجرية حصباء ، وغير مستوية ، لأنها مفلوحة ومزروعة بشعير ، رَعَت الماشية في الربيع كلَّ ما ظهر منه فوق الأرض ، وبقيت جذوره والأشواك وروث الحيوانات ..
مياه الشرب تُملأ في مقطورات تحت أشعة الشمس ، تنفد خلال سويعات .. ويبقى الأمل بما تحتويه مطرة كل منا ..
الحمّامات " كفاكَ لا رواك " ..
السهرة " رومانسية " جدا على ضوء القمر والفوانيس ..
باختصار : كانت الظروف غير مألوفة ولا متوقعة ، ولا تطاق ..

2 ـ خذلتني عيناي فأنقذني قلبي :

 جاءتني فرصة ثمينة ، أضرب فيها عصفورين بحجر .. 
فقد وصلني إشعار بتارخ 17/07/1974 بوجوب الحضور إلى دمشق لإجراء الفحوص الطبية اللازمة ، لقبولي طالبا ضابطا طيارا في المعهد الجوي من الكلية الجوية ..
وكان هذا بعد طول ترقب وانتظار ، ارتكبت من أجله مخالفات وتجاوزات ..
في صباح اليوم الثاني ، أخذت الإشعار إلى قائد المعسكر العقيد حمادة كوسا ، فأمر " رقيب " القلم ليعدَّ لي " أمر مهمة " إلى دمشق ، للمثول أمام اللجان الطبية ..
وهناك ، اجتزت كل اختبارات اللياقة والصحة ، ورسبت في فحص العينين الشديد الدقة والحساسية ، فقد أخفقت عيناي ـ عبر جهاز يعرض الصور من الفضاء ـ في اختبار " تمييز أجسام صغيرة فوق الأرض " ، وهي المرحلة الأخيرة من اختبار العينين ..
وهذا كافٍ بحد ذاته لإنهاء " الحلم " ، والخروج نهائيا من المسابقة ..
لا أعرف كيف فاجأتني ـ فورا ـ دموعٌ مدرارة من عينيّ ، وأنا ما زلت على الكرسي أمام الجهاز " اللعين " ، حين قال لي العميد الطبيب : إن عينيك لا تساعدانك على أن تكون طيارا حربيا ، هل تريد أن أحوِّلكَ إلى الكلية الحربية ؟ ستكون هناك ضابطا نموذجيا ..
كانت المرة الأولى والأخيرة في حياتي ، تنهمر فيها دموعي بدون إجهاش ولا بكاء ، كأن عيني أدركتا عمق خيبتي ومأساتي بهما ، وأنهما السبب المباشر في تحطيم ما كنت طامحا له ، فأرادتا أن تكفرا عن ذنبهما بذرف الدموع ..
انشدَهَ العميد الطبيب وهو يراقب انهمار دموعي ، واختناق صوتي ..
لا أعرف ما الذي انتابه ، لكنه لم يكتب النتيجة النهائية على بطاقة فحصي ، بانتظار جوابي ..
نظر فيها ، وإلي .. همّ بالكلام ، ثم ، لم يقل شيئا ..
الثواني تمر مؤلمة بطيئة لزجة ..
قال كأنه يعتذر لي : يا بني إن عينيك لم تجتازا الفحص على الجهاز .. وهذا ليس لي فيه حيلة ..
تمالكت نفسي ، حتى تغلبت على حشرجة صوتي ، ثم رجوته أن ينجّحني " لأمنيتي أن أكون طيارا ، ولأنتقم من الصهاينة الذين احتلوا أرضنا وقتلوا شقيقي " ..
وأكملت بتماسك وحسم : إما أن أكون طيارا وإما فلا ..
كان واقفا بجانب الجهاز الذي سبَّبَ رسوبي ..
مشى إلى الطاولة ، جلس ، وسألني عن مزيد من التفاصيل عن أخي ، ثم قال وهو يكتب ويوقع على البطاقة : إنك ـ يا بني ـ سترى عدوك بقلبك أكثر من عينيك .. تكرم عيونك .. تفضل خذ بطاقتك وأكمل فحوصك .. لكن ، اغسل وجهك قبل أن تخرج من هنا ..
أكملت الفحوص بنجاح وأنهيت مهمتي ، لألتحق  بالمعسكر في اليوم التالي ، فصودف أنه اليوم الأخير منه ..
وهكذا ، ضربت " العصفورين " بحجر واحد ..
لكنها رمية من غير رام ، تزامنت وتمت بالصدفة ، وليست بالحذق ولا بالمهارة ولا بالفهلوية ولا بالحيلة ..
 وعندما وصلت ، كان الطلاب يسلمون الأدوات والمهمات التي سبق أن استلموها ، بينما قائد المعسكر شخصيا ، ينقد كل طالب مئة ليرة سورية " صحيحة " ..

3 ـ المعارضة :

 في أواخر شهر تشرين الثاني 1974 ، وصلتني دعوة للالتحاق بالكلية الجوية ـ المعهد الجوي ..
واجهتُ المعارضة الكبرى من والدتي ـ رحمها الله ـ بإصرار وحزم ، وهي المفجوعة بأخي الأكبر ، ابنها البكر ، فهددتني بإفشاء السر فورا إن التحقت بالكلية الجوية ، وأضافت : " ولو سجنوك فهو أرحم لي " ..
وكانت زوجتي هي التي أفشت بذلك لأمي ، وهي تعارض ما أقدمت عليه ، لكنها لا تستطيع الضغط علي ..
وهي التي تعرف سبب عدم تسجيل زواجنا ، وترى أنه من غير الممكن أن أتركها للمجهول مع ثلاثة أطفال ..
فاتفقتا علي ..
ولأنه ليس في يدي حيلة أخرى بشأن " العزوبية " كشرط لازم لقبول طلب تطوعي ، أخذت احتياطياتي بشكل جيد ..
فلم أسجل زواجي في المحكمة الشرعية ، ولا في الأحوال المدنية ـ عمدا ، وعن سابق إصرار وتصميم ـ رغم مرور خمس سنوات عليه ، لأحافظ على لقب " عازب " في السجل المدني ، انتظارا لهذا اليوم ..
ولكي لا يبقى ابني البكر " مكتوما " ، أي : بدون قيد مدني يسمح بتسجيله في الروضة مثلا ، فقد سجلته أخا لي في دفتر عائلتنا ، وتركت أخاه الأصغر وأختهما مكتوميْن لوقت لاحق ( يخلق الله فيه ما لا تعلمون ) ..
ولم يعترض أبي عندما استشرته في تقديم طلب التطوع ، ولم يمنعني ، بل قال : توكل على الله ..
(( وأظن أن موافقته كانت لثقته باستحالة تطوعي بعد أن صرنا عائلة من خمسة أفراد ، مفترضا أنهم لن يوافقوا على ذلك )) ..
لكن ضغطا ونواحا متواصليْن من أمي وزوجتي ، أجبراه ـ أمام إصراري ـ أن يبلغني ممانعته النهائية في الالتحاق طيارا في الكلية الجوية ..
وحين انتقدت موافقته المبدئية على التطوع ، عزّاني قائلا :
" لو كنتَ تطوعتَ في الكلية الحربية لكان أهون شوي " ..
قلت له : لكن أخي استشهد وهو خريج الكلية الحربية !! ..
قال حاسما : لن تذهب ، وكفى ..
واكتفيتُ ، وما ذهبت ...

الجمعة ـ 25/11/2011