أنتِ ملهمتي
" تنويه : هذا العنوان ، ليس لهذه القصة ،
لأني فشلت في كتابة قصته الحقيقية " ..
.
كان ذلك قبل سنوات .. ويومها ، كنا في سهرة في
بيت صديقي أحمد ، وكنت أعرف كل الحاضرين إلاها ..
ولأنني أخر
الواصلين ، قدَّمتها لي سيدة البيت أم عامر : ميسون ، صديقتي من أيام الجامعة ،
شامية ، موظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية ، وجاءت إلى حلب بمهمة عمل ، وستسافر غدا
مع الأسف ..
خلال السهرة ،
ساهمتْ ميسون بنشاط واضح في إعداد مستلزماتها وتقديمها ، وكأننا ضيوفها ، وربما
ذاك ما شدني لأتابعها خلسة ..
لكن أحمد قرأ
في عينيّ اهتمامي واضطرابي ، فنظر إليّ كأنه يقول : اهدأ يا نزار ..
ميسون ، في
أواخر العقد الثالث ، أنيقة ، مرحة ، سريعة البديهة والنكتة ، تستطيع أن تحيط بكل
ما يقال مهما كان عدد المتكلمين ..
ذات قوام رشيق
، فيه تناسق أنثوي جميل .. لا تتصنّع الانفتاح ، ولا تختبئ وراء إصبعها ..
كانت شرهَة لـ
" أم النارين الحلبية " ، ومنشرحة في التعليق على كل شيءٍ ، مستمدةً
تأييدَ الحاضرين لها بدَفعٍ من أم عامر : لأنها " ضيفتنا جميعا ، وتحب حلب ،
وتحبني " ..
صمَتَ
الحاضرون منشغلين بالحلوى ، بينما كان يُعرَضُ على شاشة التلفاز مسلسلٌ اجتماعي
يعود لبدايات مرحلة البث الملون .. فركز أغلب الحاضرين عيونهم عليه انسجاما مع
حالة التهام أم النارين ..
قالت ميسون :
لقد ذكرتْني هذه المشاهد بما حصل مع زميلتي قبل أيام .. التفتنا إليها ، مصغين ، فأضافت
:
قبل مدة ، دخل
رجل إلى مكتبنا ، يريد أن يشتكي للوزير على موظفة في مديرية تأمينات دمشق ، قال :
إنها أهانته وطردته من المكتب ، لأنه قال لها : أنتِ ملهمتي ...
في البداية ،
ظنَنّا أنه رجل مختلٌّ .. لكنه ، بدا عكس ذلك من خلال ما سرَدَهُ لنا ، قائلا :
ذهبتُ إلى
المديرية لمتابعة تحصيل قيمة تأمينات العطل والضرر الذي أصابني ، فأصغيتُ لنصائحها
وتوجيهاتها طيلة إجراءات المعاملة ، ونفذتُها ، فكانت النتيجة إيجابية جدا لصالحي
..
وحين أردتُ أن
أعبِّرَ للسيدة صباح عن شكري وامتناني ، قلت لها : أنت سيدة طيبة ووقورة ومحترمة ،
وكنتِ حقا ملهمتي في .....
وأضاف الرجل :
ما إن قلت هذه الكلمة حتى صارت السيدة صباح كتلة من الهياج والغضب ، فرمَتْني
بالملفات التي أمامها ، وهاجمتني وهي تتلفظ بكثير من الشتائم ، حتى خشيتُ أن
تتهمني بالتهجم عليها ، ففتحتُ الباب وهربتُ تلافيا لمزيد من التصعيد ..
ولمّا عدتُ
بعد ساعة محاولا شرح مقصدي ، طردتني ..
ذهبتُ إلى المدير
، فلم يستقبلني ، لأنها أخبرته بالمشكلة كما قالت لي سكرتيرته ..
صمتت ميسون
قليلا ، وهي ترتشف قهوتها ، ثم تابعت :
أنا اتصلت
بمكتب الوزير ، وقلت لهم : عندي عامل لديه شكوى .. ويريد مقابلة الوزير .. فقيل لي
: أرسليه إلينا ..
بعد سويعات ،
عاد الرجل ، فوقف في باب مكتبي ، وقال : هل ستطردينني إن قلت لكِ : إنكِ ملهمتي ؟!
..
قلت له : لا
.. ليتني أكون ملهمَتَكَ للوصول إلى حقوقك ..
أسند الرجل
ظهره إلى الجدار ، وهو يقول : لقد وصلني حقي .. وتابع كمن نسي شيئا : سأعود إليكِ
سيدتي ..
ذهب قليلا وعاد
، ليقول وهو يمزق ورقة : هذه شكواي ضدها .. يجب أن يكون في الحياة شيء من التوازن
والتعادل .. وهذا يكفيني ، يا سيدتي .. يا ملهمتي ..
قلت لها :
أريد أن تكوني ملهمتي .. فكيف السبيل ؟
قالت أم عامر
وهي تحمل فناجين القهوة إلى المطبخ :
لا عصفور لك
في هذا العش يا زهير .. فلا ترم شباككَ قريبا منه ..
سألتُ ميسون :
أحقا ما تقول صديقتكِ ؟!
قالت بخفر :
لكَ أن تجرب ..
قلت أتصنّع
اللهفة : كيف ؟ وأين ؟ ومتى ؟
ردت بثقة : غدا
سأزور القلعة قبل أن أسافر عصرا ..
عادت أم عامر
من المطبخ وهمست بيننا ممازحة : أنصحكَ ألا تحرثَ في البحر ..
.
في القلعة ، لم
يكن عسيرا علينا الإحاطة بما يجب أن يعرفه كل منا عن الآخر ، ولا أعرف كيف استطاعت
ميسون أن تكوّرَني بين أصابعها ، بعد أن امتلأ رأسي بأبخرة لم تسكنْه من قبل ، فبدا
فضاء المدينة أمامي ـ من فوق السور ـ كبحر يتنفس رطوبة صباح أوائل الربيع ، فتفاعلتْ
أكثر ، وهاجت الأبخرة في رأسي ، وأحسستُ أني فعلا ، أحببتُ ميسون ، وامتلكتُ القلعة
، بل ، وحلب أيضا ، فتمنيتُ للحظة ، أننا طائران نهيم في سمائها ، ونبيت ليالينا فوق
الأبواب والشرفات ، أو في حضن التاريخ وبين أغصانه ..
تجوّلنا في كل
أرجاء القلعة ..
يا ألله !! كأنني
لم أرها من قبل ، وكأن المدينة اكتسبت ألوانا جديدة مذ رأيتها من هنا آخر مرة ، وهي
تحيط بنا كسوارٍ تزيِّنه وتتلألأ عليه ، كل أنواع الأحجار الكريمة ..
وقريبا من
المسرح الجديد ، جلسنا على حجر كبير نتبادل الأفكار والنظرات ..
حتى إذا ما
عدنا إلى قاعة العرش ثانية ، افترشنا الأرض بجانب النوافذ الجنوبية المطلة على
مدخل القلعة ، ورحنا نرسم خطواتٍ عملية ، وإجراءات ..
فاتفقنا أن
نذهب من هنا مباشرة إلى سوق الصاغة القريب ، لنشتري خاتميْ خطبة فقط ، نلبسهما عقب
بعض الترتيبات الروتينية ..
أنا لبستُ
الخاتم قبل أن نغادر محل الصائغ ..
وباركتْه
ميسون لي ، على أن تلبس خاتمها حين أزورهم في دمشق ..
أكملنا جولتنا
في الأسواق القديمة ، ورفضتْ أن تحمل معها أي هدية مني ، لأنها " ربحت
الجائزة الكبرى " ..
تمنيتُ عليها
أن نسافر معا ، لكنها فضلتْ ألا أضعَها في موقف محرج ، وأن ألحق بها بعد أن تقوم بما
اتفقنا عليه ..
في محطة
الحافلات ، قالت : سأتصل بك فور وصولي إن شاء الله ..
وكانت آخر من
صعد إلى الحافلة ..
تحركت الحافلة
، لوحتُ لها بيمناي ، فعكس زجاج النافذة والخاتمُ أشعة الشمس على عيني ، فأغمضتهما
على ضحكتها وأحلامي ..
.
يومها ، لم
تصل الحافلة بسلام إلى دمشق ..
أودى حادثٌ فظيعٌ
بحياتها مع عدد آخر من الركاب ..
أنا وصديقي
أحمد وزوجته ، وصلنا إلى بيتهم قبيل خروج الجنازة منه ..
وهناك ، بجانب
القبر ، كان المشهد فاجعا حزينا كئيبا مؤلما موجعا ، وفاجأني وجود العلبة الحمراء
الصغيرة بين يدي أمها ، وهي تحثو التراب على الجثمان مرة ، وعلى وجهها مرة أخرى ..
ومن بين
دموعها ونحيبها ويديها المعفرتين ، أخذتُ العلبة .. فتحتها ، فسقطت دمعتي داخلها
..
ومع شيء من
تراب القبر ، وضعت فيها خاتمي ، ورميتها فوق بياض الجثمان المسجى ، فتحشرجت أنفاس
الأم ، وشهقت بصعوبة ، ثم مالت عليَّ كأنها فهمت سرَّ " العلبة الحمراء
" ..
نمنا مع
الفاجعة في دمشق ، وباكرا ، ذهبتُ وحدي إلى القبر .. تجمد كل شيء في جسدي ، وأحسست
بعينيّ تخرجان من محجريْهما مع الدمع ، حتى وصلوا ..
.
وفي طريق
العودة إلى حلب ، توقفنا عند الحافلة ، كان الدم قاتما متخثرا فوق الكرسي الذي
جلستْ فيه ميسون ، وثمة عمال يلملمون بقايا الحادث المروع ، ويقطرون الحافلة
لسحبها ..
وإذ حرّكت
الرافعة ذراعَها إلى أعلى ، تمايلت الحافلة ، فعكس زجاجُها أشعة الشمس على وجهي ..
أغمضت عيني
وانتابني نحيب مكتوم ..
ثم لم نتمالك
أنفسنا ـ نحن الثلاثة ـ ونحن نتابع تحرك الحافلة المهشمة ، مقطورةً خلف الرافعة ..
.
ستة أعوام مضت
..
ومازلت أزور
القلعة في ذكراها كل عام ، وأهديها خاتمين في علبة حمراء ، أدسُّها لها في ثنايا
اللحد ..
الإثنين ـ 11
ـ 06 ـ 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق