الديمقراطية
العرجاء
بعد عقود من الحياة السياسة التي تلت الاستقلال ،
كأننا نعود إلى نقطة الصفر ، وربما دونها ، وذلك لأننا كنا كمن يسير على ساق واحدة
، " فتكيَّفَ " المجتمع كله مع هذا الطابع في الممارسة السياسية ، وصرنا
نميل إلى إحاطة وتغليف أنفسنا وأقوالنا وأفعالنا بشيء من التمويه المقصود ، والغمغمة
المبهمة ، والإشارات الدلالية ، لإيهام الآخرين بأهميتنا وأهمية ما لدينا ، وبأننا
نعرف ما لا يعرفون ، ونقدِر على ما لا يقدرون ، ونعلم ما لا يعلمون ، ومطلعون على
ما لا يمكنهم الاطلاع عليه ، وأن علاقاتنا من الأهمية بمكان لا يتصورونه مع "
المَعنيين والجهات العليا " ، وكل شيء قابل للتفاوض ، وبأسعار لا تنافَس ....
والواقع ، أن كل ذلك ، ليس إلا فقاعات
وبثور جلدية مرضية ، لأن غير أولئك لا يحتاجون إلى ما يحتاجه أولئك المصابون بداء
العظمة حينا ، وبداء العقدة " التخويفية الترهيبية " أحيانا أخرى .. وقد
أتخِمَ المجتمعُ بهؤلاء ، وما عادت حسابات الربح والخسارة ذات أهمية في ظل المتيسر
من الدخل والريع والربح والعائد والوساطة ....
و (( كمثال على تكيّف المجتمع مع طابع
الممارسات السياسية التي سادت في العقود الماضية ، قيام منظمي بعض اللقاءات
السياسية المعارضة بـ " طرد ممثلي الإعلام الآخر " ، والاختباء وراء
أستار من الظلمة والعتمة والتكتم ، طالما اشتكوا هم منها ، كون السلطة مارسته
عليهم ، وحين سنحت لهم أول فرصة ـ ولو جزئيا للظهور العلني ـ كان أول ما قاموا به
: إقصاء إعلام السلطة بذرائع مبهمة )) ..
" فكأنك يا أبا زيد ما غزيت
" .. و " ما في حدا أحسن من حدا " ..
ويبدو أن فكرة " الاستئثار " وسياسة "
الإلغاء " داءان لن نبرأ منهما قريبا ، كونهما مستفحليْن ، وتكرّس ذلك في
الأشهر المريرة الصعبة السابقة ، بشكل أو بآخر ..
كما لم نعتدْ على فكرة وجود "
موالاة ومعارضة " بعد أن عشنا عقودا حياة الـ " فريك اللي ما بيقبل شريك
" ، فبتنا بين ليلة وضحاها في وسط هذه " المعميكة " ، فكانت
المفاجأة كبيرة ..
(( حيث لم تكن المرحلة السياسية
السابقة في وارد السماح بوجود " معارضة " تنمو وتتنامي وتتزاوج وتنجب أبناء
شرعيين يعترف الوطن ببنوتهم ، فيرعاهم ويقدم لهم كل حاجاتهم )) ..
أما وقد بات المصطلح معبّرا عن شريحة
من المجتمع السوري ، فإن " الموالاة والمعارضة الوطنية ، تتحملان معا مسؤولية
إعادة زرع الثقة في نفوس المواطنين عامة ، وطمأنتهم إلى صحة التوجّه نحو استمرار
العيش المشترك المطمئن الآمن ، لأن الوطن للجميع ، سابقا وحاليا ولاحقا وإلى الأبد
، وليس ثمة بديل عن ذلك ، والتجارب الإقليمية المحيطة أكبر دليل ..
لذا ، فإن الكثيرين من هؤلاء جميعا ـ
الذين تبادلوا التهم والشتائم وأقذع الألفاظ أحيانا ، إلى حدّ إضفاء صبغة العداوة والخيانة
والعمالة ـ سيجدون أنفسهم في وقت لاحق ، مرغمين على التخفيف من الألوان القاتمة
والنشاذ من تلك الصبغة ، وكسر حدتها ، كي يعبّروا عن انصياعهم للمصلحة الوطنية
والشعبية ، والدخول في بوابة تضميد الجراح واستعادة اللحمة والوئام اللذين
يحتاجهما جميع المواطنين ..
وبعد أن كانت بلادنا مثالا في التعايش ،
صرنا مضطرين لاستلهام تجارب الآخرين والتمثل بها ، حتى يدرك الجميع أنه :
لن يكون الوطن حكرا لأحد .. ولن يكون الاستئثار
من مصلحة أي أحد .. ولن يسود إلا الإيمان المطلق بمبدأ التعايش السلمي الآمن وبالمساواة
التامة في الحقوق والواجبات ، واللجوء إلى الحوار الهادئ العقلاني ، لأنه في
النتيجة ، طريق لا بد من عبوره ، فلماذا لا يتم اختصار زمن الوصول إليه ، وقطع مسافاته
الطويلة بأقصر وقت ممكن ، وبأقل الخسائر ؟!
كما آآآآن الأوان لخوض تجربة سياسية مدنية
ديمقراطية شفافة ، تفسح المجال للقوى السياسية ـ كل القوى السياسية ـ كي تعبّر عن
وجودها الشرعي والقانوني ، وتمارس نشاطها عبر مؤسساتها ، في جوٍّ من التنافسية الوطنية
السلمية ، تحت سقف الوطن ، فيكون لكل مجتهد نصيب ، وللكل حقوقهم التي يكفلها
بالتساوي والتوازي " دستور جديد " وقوانين أخرى ، ويمارسون الديمقراطية
عبر صناديق الاقتراع ، بدءا من رئاسة الجمهورية وحتى أصغر مجلس بلدي ..
فإذا كان يحلو للبعض أن يلقي التوصيفات
والتسميات السياسية على عواهنها ، بما يوسّع الشرخ الوطني ، ويزيده عمقا وشرشرة ،
فذلك لا يعجّل في بلوغ أي هدف من الأهداف ، ولن يكون في مصلحة الوطن بأي حال من
الأحوال ..
وإذا كانت السلطة غير حريصة أو غير جادة
في تحقيق الإصلاحات الدستورية والقانونية والسياسية بما فيها :
1 ـ محاربة الفساد ، ومحاسبة المفسدين
والمسيئين والمستغلين والجشعين الذين أثروا على حساب المواطنين .
2 ـ استكمال إجراء إصلاحات حقيقية
وتنفيذها بما يلبي المطالب المشروعة للمواطنين ..
3 ـ انتهاج الديمقراطية الشفافة ،
المؤدية إلى حرية الرأي والتعبير ، وحق التظاهر السلمي تحت سقف قانوني يكفل
الحريات للجميع ، بما يساعد على تحقيق التداول السلمي للسلطة .
4 ـ اعتماد المبادئ الكفيلة بوضع الرجل
المناسب في المكان المناسب ، بعيدا عن أي انتماء ، وإيجاد شراكة حقيقية تفرزها
صناديق الانتخابات لإيصال ممثلي الشعب إلى حقهم في ممارسة دور الرقابة التشريعية
والتنفيذية والدستورية والقانونية ، والمساهمة في حكومة وحدة وطنية تقود المرحلة
القادمة ..
5 ـ محاربة الرشوة والواسطة والمحسوبية
والتسلط والاستزلام واستغلال المنصب والمتاجرة فيه بيعا وشراء ، وتحجيم ومحاسبة
مراكز القوى ..
6 ـ تفعيل لجنة التحقيق القضائية
لمحاسبة كل من ارتكب جريمة بحق المواطنين ، وحيثما كان موقعه ، بما يكفل تحقيق
العدالة بين الجميع ، لتكون النموذج الذي يعطيهم حقوقهم ، ويكون دافعا لهم وعونا
على تجاوز المحنة ..
7 ـ إن تحقيق ذلك لا يكون بضربة العصا
السحرية ، ولا في ظل التكالب الدولي المتورط في الحصار والعقوبات واستمطار التدخل
العسكري ، لكن ، لا بد من العمل المخلص والبناء رغم كل الظروف وقسوتها ، عبر
الحواااااااااااااار مع جميع الأطياف ..
فإذا لم تتبنَّ الموالاة تلك الأسس
وتنفذها مع غيرها من الإصلاحات التي أعلن عنها ، بما يحقق للشعب نقلة ديمقراطية
مدنية سياسية ووطنية تنقذه من الأزمة ، فإنها تكون مساهمة في إطالة أمد الأزمة ،
ولا يساعد على تجاوزها ..
لكن ، إذا كانت " المعارضة "
تعني :
1 ـ تهديد السلم الأهلي باستخدام
السلاح والمناداة بالشعارات الطائفية وممارستها فعليا عبر عمليات التصفية التي
تستهدف الأبرياء والعقول وخيرة النخب ، لإذكاء الفتنة ، واستدعاء التدخل الأجنبي
..
2 ـ وتعني : التفريط بحقوقنا في وحدة
وسلامة الأراضي العربية السورية ، والتخلي عن المقاومة في مواجهة الصهاينة
لاسترداد حقوقنا ..
3 ـ وتعني : الاستسلام للعدو الصهيوني
عبر التوقيع معه على اتفاقيات على غرار " كامب ديفيد ، ووادي عربة " ، واتخاذ
موقفٍ معادٍ للمقاومة وقضايا الشعب العادلة لصالح الكيان الصهيوني والمشاريع
الأمريكية في المنطقة ..
4 ـ وتعني : الدخول في التحالفات الجديدة
" للعثمانية الجديدة " ..
5 ـ وتعني : مهادنة أمريكا ومسايرتها
لصالح الكيان الصهيوني ..
6 ـ وتعني : التبعية الذليلة للدول
" الديمقراطية العربية المعتدلة أمريكيا " ..
ثم ، ماذا ، ومن تمثل كل تلك "
التنسيقيات " ؟؟
وهل هي مسؤولة عما يجري على الأرض ؟؟
وهل هي قادرة على التحكم بهؤلاء ؟؟
أم إن كل شيء خارج التغطية بالنسبة
لبعضهم البعض ؟؟
في هكذا حال ، هل يمكن توصيف هؤلاء
بأنهم معارضة وطنية ؟؟
هل يبتغي هؤلاء غير السلطة وبأي ثمن ؟؟
وبالتالي : هي أهداف وغايات غير بريئة
من شبهات كثيرة ، وهي غير جديرة أيضا بالتبني أو الدفاع عنها .. خاصة في ظل رفض
الحوار ، والانغماس أكثر في التواطؤ مع أعداء سورية ، بدءا بالصهاينة وأسيادهم ،
مرورا ببعض العرب الذين ارتضوا لأنفسهم لعب دور " المهرج الهزلي السمج والممجوج
" في السيرك العالمي المتوحش الذي يستهدف تدمير كياننا العربي كله من بوابات
" تجيير الثورات " و "مصادرة " آمال الشعب وتطلعاته لصالح التنظيمات
المتطرفة ، والأعداء الذين لم يتورعوا يوما عن سفك دمائنا طيلة عقود ، وليست دول
العراق وفلسطين ولبنان وليبيا ببعيدة عنا ..
وإلى جانب ذلك ، ومما يزيد الطين بلة ،
أننا : لم نسمع من المعارضة حتى الآن ، عن برامج حقيقية أو خطط بديلة تطرحها على
الجمهور ليتعرف على " بدائل النظام " ..
ولم نر إلا مشاريع التهافت على إسقاط
النظام ، ليس حبا بالإصلاح ، ولا رغبة في تحقيق مطالب الشعب ، بمقدار ما هو زحف
محموم نحو السلطة ، ولو داسوا على كل الشعب ..
وما نلاحظه عليهم ، لهو أكبر دليل على
ذلك :
فهم متشرذمون ، وتبعيون ، وتمتد
آنتيناتهم وترتبط بجهات مشبوهة وعدائية ، مستترة حينا وجهرية غالبا ..
ويضاف القول : إن انتماءاتهم وأطيافهم
الفكرية والسياسية ، تمتد من أقصى أقصى اليمين ، إلى أقصى أقصى اليسار .. فأين
سيكون الشعب وقضاياه من تلك التحالفات الخليطة الهجينة ؟؟!!
وعليه ، فهناك أنواع من "
المعارضات " برز
منها على الشاشات :
1 ـ
معارضة من أجل المعارضة .. على مبدأ
" عنزة ولو طارت " ..
2 ـ
معارضة : هوايتها : المعارضة ..
فلو تغير شيء في سلوكها ذاك لاهتزت
نواميس الكون ..
3 ـ
معارضة : بالخِلقة ، خـُلقوا معارضين ، وما يزالون ..
وأعرف بعضا منهم ، كنا نتزامل في
الإعدادية .. لكنهم الآن " اخشنشروا " بصوتهم الأجش المبحوح ، و "
انتفخت كروشهم وأوداجهم ، وجحظت عيونهم من كثرة التباكي على مصير وطنهم في "
العلب الليلية ( النوابية ) " ..
4 ـ
ومعارضة حسب الطلب : وكذلك أعرف منهم من كنا نتزامل معهم في الجامعة ..
فهؤلاء يعارضون اليوم على هذه الطاولة
، وغدا يعارضون معارضتهم على طاولة أخرى .. والحبل عـَ الجرّار ..
أيضا على مبدأ الشاعر مظفر النواب :
" كلنا قد تاب يوما عن توبته ، ثم
ألفى نفسه قد تاب عما تاب " ..
5 ـ
معارضة إلغائية : بمعنى : أللهم أسألك نفسي .. ومن بعدها الطوفان .. أو : فلتحترق
روما بمن فيها ..
6 ـ
معارضة متسلقة : تريد الصعود إلى الكرسي بأي ثمن ..
إلا أن كل ذلك ، لا ينفي أمرين هامين
جدا :
الأمر
الأول : إن في الطرف الآخر من هو أسوأ بكثير من هؤلاء ، وقد عاثوا فسادا واستغلالا
وجشعا وقهرا وظلما .. وبعضٌ من هذا الوابل ، من ذاك الغيم الأسود ..
الأمر الثاني : وجود كثيرين هنا وهناك
، ما يزال ينعقد الأمل عليهم في حمل خشبة الخلاص ..
لقد تحقق كثير من المطالب المحقة ،
وصار من الأهمية الواجبة ، أن تأخذ طريقها نحو التنفيذ الحقيقي ، تمهيدا لمواصلة
خطى التغيير ، فما يزال هناك إجراءات مطلوبة
لإكمال دورة الإصلاحات على كافة الصعد ، ويجب اعتمادها بما يلبي طموح الشعب
العربي السوري بكافة أطيافه وألوانه ..
إننا يجب أن تتضافر جهودنا جميعا ،
ونوجهها لرأب الصدع ، وبلسمة الجراح بما أمكن من الإحساس بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية
، واعتماد الحوار نهجا وحيدا للوصول إلى عكس ما يريده أعداؤنا لنا ..
فهم ـ الأعداء رافعي راية الربيع العربي
ـ متربصون بنا دوما ، ولن يفوّتوا أيّ فرصة للانتقام من عدائنا لصهاينتهم ، ومهما
حاولوا التلطي وراء " إنسانيتهم " والتنصل من الولوغ في دمائنا ، فهم مجرمون
سفاحون ويشهد لهم بذلك تاريخهم الدموي ضدنا ، وهم كذبَة أفاقون بشهاداتهم أنفسهم ،
ولا يريدون بنا جميعا ـ عربا ومسلمين بكل طوائفنا ومذاهبنا وانتماءاتنا السياسية ـ
أي خير مهما ستروا تكشيرات أنيابهم ونواجذهم ، ومهما أخفوا أظافرهم القذرة السامّة
بقفازات من الحرير ..
الثلاثاء ـ 04/10/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق