الاثنين، 24 أكتوبر 2011

عوقبت بعشرة أضعاف ما أستحق


عوقبت بعشرة أضعاف ما أستحق

 منذ التقينا في الكلية ، كانت ثمة وشائج متعددة تربط بيننا ، وتجعل من احترامنا له ـ كمدرس عائد من الإيفاد ـ أمرا طبيعيا ..
وقد جمعتنا لقاءات مشتركة ، رسمية وودية ، تعززت حين بدأ يملي علينا محاضراته عن الشاعر " أسامة بن منقذ " ، بعدما انتقلتُ إلى السنة الثالثة " بعملية قيصرية " ، سببتْها مادة التدريب العسكري الجامعي ( وسيأتي الحديث عنها في مقال آخر ) .. وجاء انتقالي في أواخر شهر شباط من عام 1976 ..
المهم ، لم يكن بيني وبين الدكتور وهيب طنوس إلا كل الخير والمودة ..
والصورة المرفقة رقم /1/ توضح شيئا من تلك الحالة ..
وهي ملتقطة بتاريخ 28/01/1976 في مقصف كلية الآداب ، أثناء حفل إفطار تكريمي له بعد تكليفه وكيلا للكلية ..
والصورة رقم /2/ ملتقطة بتاريخ 13/01/1977 في مدرج الجاحظ خلال مؤتمر طلابي ..

وأشهد أنه لم يقصّر معي في تلبية ما طلبته منه ، ضمن دائرته الخاصة كمدرس أو كوكيل للكلية ..
وكنا نتعامل بكل الاحترام المتبادل ، بل ، انتقلنا إلى مرحلة أقرب إلى الصداقة حين ذهبنا معا في رحلة جامعية إلى الأردن ..
ففي طريقنا إلى دمشق ، شرحتُ للزميلة رغدة ظروفا استجدت مؤخرا معي ، تلزمني البقاء في دمشق لمتابعة إجراءاتها بين المكتب التنفيذي لاتحاد الطلبة ووزارة التعليم العالي ..
وقد تفهّمت رغدة أسبابي .. لكن الجميع فوجئوا بقراري ، وظنوا أن في الأمر خلافا معها ، ولم يصدقوا نفينا ، وحاول د. وهيب أن يتقصى مني ـ على انفراد ـ سببا موجبا " لقرار كهذا في رحلة تاريخية كهذه " ، فشرحته له ، وتفهمه ، وباركه الصديق عبد الستار السيد أحمد ..
بينما " هلـّل " لقراري زملاء آخرون ممن حاولوا ـ مازحين ـ مقايضتي بالمكان بأي ثمن ..
كل ذلك كان على ما يرام حتى أيلول 1977 ، أيام امتحانات الدورة الثانية ، حسب النظام السنوي الذي كان متبعا ..
 كنت في نهاية السنة الرابعة ، وبقيت عليّ مادتان : اللغة الإنجليزية من السنة الرابعة ، وعلوم اللغة العربية من السنة الثالثة ، وهذه لم أكن قد تقدمت لامتحانها في أي دورة سابقة ، نظرا لتأخر صدور قرار انتقالي من السنة الثانية إلى الثالثة إلى ما بعد منتصف العام الدراسي ـ كما مرّ ـ ، الأمر الذي حرمني من متابعة محاضرات النحو والعلوم الأخرى لكل من الأستاذين : الدكتور فخر الدين قباوة ، والدكتور مصطفى جطل ..
كان عدد المتقدمين لامتحان هذه المادة كبيرا جدا ، الأمر الذي أربك إدارة الكلية وموظفيها ، واتخذوا قرارات ارتجالية فساهمت في مزيد من الفوضى ..
ومع ذلك ، توجهتُ مع آخرين من البهو السفلي في الكلية إلى مدرج الجاحظ بناء على توجيه رسمي لإعادة توزيعنا على القاعات الامتحانية ..
وهناك ، لم يكن الوضع أفضل ، فاتخذت مكانا في وسط مقعد أمام باب المدرج ، وبدأت أحض زملائي ـ وكنت أعرف كثيرين منهم ـ على التزام أماكنهم حسب تعليمات المسؤولين في القاعة ..
ولا أعرف كيف فهم رئيس القاعة تصرفي " نوعا من الفوضى أو تحريضا عليها " .. أللهم ، إلا إذا كان يريد " كبش فداء " .. ( ورئيس القاعة هذا من بين الأشخاص النادرين الذين لا أعرفهم على مستوى الكلية ، وتبين أنه محاضر من خارج الجامعة في قسم اللغة الفرنسية ) ..
تزامن ذلك مع دخول د. وهيب إلى المدرج ، فهمس له رئيس القاعة بكلام ، هُرع على إثره إليّ بغضب أحمق ، طالبا هويتي الجامعية .. التقطها من يدي ، وناولها لرئيس القاعة ، وانتظره حتى انتهى من كتابة التقرير ، فاستلمه منه وغادر بنفس الغضب والحمق المعهودين فيه ..
ولم تكن أوراق الأسئلة قد وُزعت حتى تلك اللحظة ..
وحين وزعت أوراق الأسئلة ، لم أشرع بالكتابة ، وبقيت مأخوذا بالاستغراب والاستهجان ، منتظرا ما سيحصل من عواقب ، توقعت أن تنتج عن هذه الاستشاطة الغضبى ..
وبعد دقائق بدأت التفاعلات ، فجاءني العميد د. عمر الدقاق يستفسر عما حصل ..
حكيت له ، وطلبت منه أن يسأل كلَّ مَن حولي عن حقيقة مزاعم رئيس القاعة .. وقلت له : إن كنت سأعاقب ، فسأخرج من الامتحان دون أن أتكلف عناء الإجابة .. فقال : أكمل امتحانك ، وسنرى فيما بعد ..
وعندما خرجت من الامتحان ، وجدت مذكرة معلنة في لوحة الإعلانات ، ممهورة بتوقيع العميد وليس الوكيل ، تفرض بحقي " عقوبة درجة الصفر في المادة المذكورة لقيامي بالشغب داخل قاعة الامتحان " ..

فيما بعد :
ـ بدا العميد مغلوبا على أمره ، ومُحرَجا وهو يتلكأ في تسويغ القرار ..
ـ لم يستجب د. وهيب لتدخل أستاذي وصديقنا د. فؤاد المرعي ، وكذلك أستاذي وصديقي المرحوم د. محمد حموية .. وآخرين ..  
ـ ولم يُجدِ معه تدخل الدكتور محمد سعيد فرهود في تخفيف غلوائه ..
( وكان وكيلا لكلية الاقتصاد والتجارة ، وكنت موظفا فيها وقتذاك ، وصار فيما بعد رئيس جامعة حلب ) ..
ـ أجاب د. وهيب في اجتماع لاحق ، على سؤالي عن سبب شدة العقوبة وتمسكه بها ، فاعترف بأنه عاقبني " بعشرة أضعاف ما أستحق كي أكون عبرة لغيري ممن يظنون أنني لن أعاقب " ..
( وهذه كلمة باطل أراد بها باطلا ) ..
فرددت عليه أمام الحاضرين : وَصَلني حقي ، شكرا لك .. وتلقيت تهانيَ كثير منهم أمامه .. مما زاد في حنقه علي ..
ـ فهو يعرف أكثر من غيره أنني لم أنتهز ولم أتسلق ولم أستغل ، ولم أكن ـ أساسا ـ في أي موقع يحميني أو أحتمي به .. وليس لي سوى علاقاتٍ من الود تربطني بمعظم أساتذتي ، وبكثير من الزملاء والموظفين والإداريين في الكلية والجامعة ، وقد واسَوْني وآزروني وعبّروا عن تضامنهم القوي معي ..
ـ د. فؤاد ، و د. مصطفى جطل ، وبعد صدور نتائج المادة ، وَصَّفا لي حالة " الندم " التي اعترَتْ د. وهيب ، بعدما تبين له نجاحي فيها على عكس ما توقع ..
(( وحسب زعمه : كان هذا هو سبب تشدده معي ، مفترضا استحالة تأهلي للنجاح بمادةٍ كان يُطلق عليها اسم : " جسر التخرج " ، ويدرسها الدكتور قباوة !! )) ..
ـ نجحت في مادة اللغة الإنجليزية ، وبقي تخرجي متوقفا على نتيجة مادة النحو في الدورة المتممة في مطلع 1978 ..
ـ في الدورة المتممة ، نلت أعلى علامة في مادة النحو بين الناجحين فيها ..
وكان أستاذنا د. قباوة ، قد أعطى علامة النجاح الدنيا لكل المتقدمين في هذه الدورة المتممة ، مساعدة منه لالتحاق الناجحين المتخرجين بمسابقة انتقاء المدرسين التي أعلنت عنها ، للتو ، وزارة التربية ..

وإن كانت تلك " الأزمة " قد مرت وتم تجاوز نتائجها ، إلا أنها تفاعلت أكثر ، وأحدثت شرخا حقيقيا ، مارس من خلاله د. وهيب ضغطا أدبيا مُمِضًّا على د. فؤاد استهدف النيل من صداقتنا ..
وقد قرأت ذلك بين كثير من السطور التي سمعتها من د. فؤاد في أوقات لاحقة ، ولم يصرّح لي بها مباشرة ، ولاسيما بعد أن قفز صاحبنا من عضو لقيادة فرع الحزب بالجامعة ، إلى عضو للقيادة القطرية ، رئيسا لمكتب التعليم العالي القطري ..

 [ أما الأمر الإيجابي الوحيد الذي مرّ من ثغرةٍ خفِيّةٍ في السد المُحْكم خلال " عهده الميمون " هو تكليفي محاضرا في الجامعة بين عامي 1986 ـ 1992 بمبادرة خاصة من د. محمد علي حورية رئيس الجامعة ، و د. مروان العلبي أمين فرع الحزب فيها ، إذ ربطتني بالأول علاقة عمل إداري في رئاسة الجامعة عام 1979 ، وبالثاني علاقة زمالة وصداقة منذ مرحلة الدراسة الثانوية ] ..

وما عداه ، فقد حِيل بيني وبين أن أستفيد من أي فرصة تسمح لي بإكمال الدراسات العليا ، على غرار ما استفاد كثيرون آخرون غيري ، ولم يكن معدل تخرجهم بأحسن من معدلي ...
فـَ " اللي ما لو حظ ... " ..
كيف وقد تربع صاحبنا دهرا على كرسيه الـلا تيفالي ؟؟!!..

ذلك ما دفعني للعزوف عن فكرة استكمال الدراسة شاقوليا ، والتهيئة لدراسة فرع جامعي آخر ..
فنلت الشهادة الثانوية العامة من جديد عام 1981 ، وكنت من طلاب الدفعة الأولى في كلية الحقوق بحلب بعد أن أعيد افتتاحها في العام الدراسي 1981/1982 ..

وهذا ما عبر عنه الدكتور فؤاد : بالامتداد " أفقيا " في الدراسة ، بعد استحالتها " شاقوليا " في العهد الميمون لصاحبنا ، وحتى سقوط جدار برلين ..
ذاك السقوط ، فتح أبواب أوربا الشرقية ، وبدأت تنشط الحركة الثقافية والاقتصادية والسياحية مع منطقتنا ..
ومعها بدأتُ مرحلة جديدة من محاولة تصحيح البنيان لاستكماله شاقوليا في جامعة صوفيا ..
ومرة أخرى ، أعجز عن تقديم الشكر والامتنان لصديقي وأستاذي الدكتور فؤاد ، لمواقفه الإيجابية الصادقة ، ونبله وشهامته ومروءته .. فقد بذل من أجلي أكثر مما أستحق ، وكل ما استطاع ، بل ، وأكثر ..
فالكبير كبير حقا .. ودوما ..


الإثنين ـ 24/10/2011 

 الصورة رقم 1 : حوار مع د. وهيب طنوس في مقصف كلية الآداب أثناء إفطار تكريمي له . وفي الصورة الزميلة الشاعرة علياء شاويش ، والزميل محمد سالم . 28/01/1976



الصورة رقم 2 : مؤتمر طلابي في مدرج الجاحظ . من اليسار  د.وهيب ، د. أحمد هبو ، د. فؤاد المرعي ، يوسف رشيد والأستاذة منى برغوث .... وفي الصف الثاني من اليمين  الزملاء  فؤاد نعناع ومحمد رضوان ... 13/01/1977

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

الأستاذ المربي يحيى راغب الطباخ


الأستاذ المربي يحيى راغب الطباخ

 الرجل الذي درَس " طب التاريخ " بدل طبِّ الأسنان ، فعشق الأول وعاش معه مساكنة مشروعة ، وأفلح فيه ..  فيما تجنب الثاني بكل ما له وما عليه وما فيه ..
ومع ذلك ، ما تزال أسنانه ـ حفظه الله ورعاه ـ كما أفكاره ، منضدة تامة ناصعة مذ خلقت واكتملت ، يتزيّن بها وجهه النضير المكلثم الأشقر ، الذي لم تخلـِّف فيه السنون كثيرًا من وعثائها ..
وتحت جبين واسع وشامخ ، ثمة عينان وقادتان زرقاوان لم تنل منهما " الماء البيضاء " ، ولا أخذت منهما سنواتُ الغربة والسفرُ البري ، شيئا من زرقتهما البحرية الآسرة ..
أيا تكن ، يُشعركَ أنكَ جالسٌ معه ، وليس أمامه ، فتحس أنه جالس مع أخيه وصديقه ومعلمه وسميره ونجيّه ..
هو التواضع واللباقة والأناقة .. هو " المشنغب " ، ذو الظل الخفيف ، والنكتة اللحظية الحاضرة المتكئة على إحساس ناعم وشفاف ، وبديهةٍ أسرع من سرعة الضوء ..
فإذا ضحك ، تخيَّلتَ طفولة العالم تضحك أمامك ..
وإذا اكفهرّ صار رأسه شوندرة قانية اللون ، تلسعك حرارته ، ولا تستطيع لكراته صدًّا .. فهي صائبة حتما ، وقد تمزق الشباك لتطال مَنْ وراء المرمى ..
حليم بالقدر الذي لا تتصوره .. فلا يضخم أمرا ، ولا يستهين بغيره ..
يَحْمِلكَ حلمُه على التمادي ، فيدع لكَ الحبل على الغارب ، حتى تلفه بنفسك حول عنقك ..
ثم يفاجئكَ بردة فعل تقذف بأوهامك بعيدا عن " فضائه الحرام " ..
ولن يستخدمَ معكَ مبضعه قبل أن يخدّرَكَ  و " يحذرَك " من غضب الحليم ..
فإذا غضب ، فغضبته " مضرية بدوية " نزقة كالشهب ..
وصبره " أيوبي " طويل لا ينتهي ، كليل امرئ القيس ..
فلا يأخذك على حين غِرة ، ولا يسحب يدَه من يدك ..
وأجزم أنه لم يحمل في يده غير الوردة العطِرة طيلة حياته ، يقدمها للجميع مع ابتسامة ودودة وحييةٍ أحيانا ..
حريص على الوفاء بما يلتزم أو يعد به .. فإذا أخلف لعذر طارئ ، اعتذر منكَ فورا ، ولا يثنيه فارق السن ، ولا المكانة الاجتماعية عن الاعتذار ممن يجب عليه الاعتذار منه ..
وفي غير ذلك ، فإن الثريا أقرب ..
ـ يعرف قدْر نفسه ، فلا يسفُّ ولا ينحدر .. ويحفظ للآخرين مكانتهم وقدْرَهم بلا أي خلفية أو اعتبار بعيد عن الإنسانية والمحبة ..
إن إنسانا يحمل في كينونته : القلب الأنصع ، والسريرة الأنقى ، والعقل الأرجح ، والعاطفة الأصدق ، والنبل الأرفع ، لا يمكن أن يكون إلا : رجلا .. نبيلا .. عزيزا .. كريما .. أنِفا .. وفيا .. أبيا ..
عرَفته ـ أول ما عرَفته ـ أستاذا " محاربا " فوق الحلبة ، و " فنانا " أمام السبورة ..
كنت في نهاية المرحلة الثانوية ، وقد مرت بي ، وبنا ، أحداث وأحداث ، منحتني شيئا من " الفذلكة " التي أرسل بها بين الحين والآخر ، تعليقا على زميل أو موقف ما ، داخل الصف .. وكان " أستاذ التاريخ الحديث " يستجيب ويضحك ويرد معلقا تارة ، وتارة يرد لي الصاع صاعين ، ومع ذلك ، لم يخدش جلدي مرة ، ولم يتركني أسير هواجسي .. ويبدو أنه راهن على اصطفافي بجانبه أمام حملات بعض الطلبة المشاغبين " خِلقة " ونحن في مدرسة خاصة ، وكانت لي دالـَّة أدبية على أكثرهم خروجًا على القانون العام ، وهو المرحوم الصديق " يوسف محمود الهزاع " ، فألزمته أن ينصت كما أنصت أنا ، لأن هذه الحصة وأستاذها يعنيان لي كثيرا ..
فاستجاب صديقي وغيرُه ، ولمس أستاذنا مدى العلاقة والتأثير مع هؤلاء ، فحفظها لي ، وخصّني بمودة مميزة بين زملائي ، ساهمتْ في تعميق العُرى بيننا ، وقوّاها أكثر ، حين عرَف أني أخو طالبه الشهيد فتح الله .. وهو يكنّ له محبة وإعجابا كبيرين .. فمحضني جزءا منهما لا أستحق غيره فعلا .. 
ودعاني إلي بيته في حي السبيل بحلب " وما زال هو بيته " ، فلبيت شاكرا .. كما تفضل بزيارتي مرارا مصطحبا معه أصدقاء آخرين ، يأتون وفي نفوسهم تهيُّبٌ " ما " مني ، لم أدركه بداية ، لكني اكتشفت فيما بعد ، أن أستاذي " مُبالِغ " ـ كعادته ـ في مديحي أمامهم ، كما يمدح غيري أمامي ..
من هنا كانت بدايتنا ، واستمرت محكومة بظروف كلينا ، لكنها لم تنقطع أبدا منذ نهاية عام 1972 ..

لطيف المعشر ، شفاف ، عميق ، وعتيق مُعَتَّق ..
لكنه " يعترف " للجميع ، ودوما ، أنه لا يملك القوة ولا القدرة على المواجهة أمام " لسان " اثنين ممن عرَفهم في حياته كلها .. أنا العبد الفقير لله تعالى ، واحد منهما ..
وإن كنت أجد في تلك شهادةً أعتز بها من أستاذي وصديقي ، كون لساني " سليطا بمودة وحق " ـ كما أزعم ـ ، وليس متجنيا ولا ظالما ، فإنني أرى أنها شهادة " مجروحة ومُبالَغ " فيها أمام اتقاد أستاذي ومعلمي ذكاءً وفطنة ، وروحًا نقية مرحة ..
فهي شهادة مجروحة ، لكونها مدحا وبأسلوب المدح حصريا ، وليست العكس ، وهي من أستاذ وصديق محِبٍّ أنحني له ..
وهي مُبالغ فيها لأنني مازلت " تلميذه " الذي كنته أمامه في المقعد الأول من مقاعد الصف ، وأنا أنكز ـ حقيقة وليس فيسبوكيا ـ صديقي يوسف الهزاع ليكفَّ عن إزعاجاته " الرائعة " ، لكن ليس في هذه الحصة ..
إنني ، حقا ، أشعر بالعجز أمام روعته ودماثته وتواضعه وسعة صدره واعتداله .. إذ يعطي كل شيء ، وكل ذي حق حقه ، ولا يعيش حياته على حساب آخرته ، وليس مستعجلا عليها ، فالآمال عريضة ، والقادم " أبهى وأجمل وأكثر عطاء " ..
ولأن العمر ـ مهما امتد ـ محدود بالأجل المحتوم ، وبعد العمر الطويل إن شاء الله ،  أتمنى له العيش واقفا ، والموتَ واقفا .. كما الكرام والأبطال والأشجار .. وهو خير من يستحقها ..  

الاسم : محمد يحيى ابن الشيخ محمد راغب الطباخ ..

يقول : "" اكتسبنا شهرة " الطباخ " من المهنة التي مارسها أجدادي ، حيث كانوا يطبخون أصباغ المادة الكيماوية التي يصبغون بها المناديل ، ثم يبصمون عليها رسوما تزيينة ملونة ، باستخدامهم قطعا خشبية محفورة برسوم متنوعة " كالأختام الكبيرة " ..
(( وتسمى هذه المناديل بـ " الهـِبْرية " ، وهي عبارة عن قطعة قماش تعصبُ المرأةُ بها رأسَها فوق الغطاء )) .. 
"" ويقال أيضا : بأن أحد أجدادي كان يستأجر حلة ليقوم بنفسه وعلى نفقته ، بإيقاد النار تحتها وسلق القمح مجانا لتصنيع البرغل للآخرين " حِسبة لله تعالى " ..
ميلادي الحقيقي : أواخر 1934 ، والرسمي 02/07/1934 .

الطفولة والدراسة :

يقع بيت العائلة الأساسي في حي الجلوم بحلب ، وشهد هذا البيت الواسع الكبير ، عددا من " النزوحات " خارجه ..
وحين انفصل جدي محمود عن والده ، اشترى بيتا آخر واسعا جدا في حي باب قنسرين بجوار بيمارستان الأرغوني ..
ومثلما استقل جدي ببيته ، انفصل أيضا عن والده ـ بإذن منه ـ في مهنته التي كانت تسمى " صناعة البَصْم " أي : الطباعة على المناديل .. وحين كبر أبناء عمي عبد القادر وإخوتي ، باع أبي حصته من البيت لعمي ، واستأجرنا بيتا في حي العقبة ، ثم انتقلنا للجلوم الصغرى قرب " حمّام المالحة " ، ثم بنى دارا في حي " جنينة الفريق " ( السفاحية ) عام 1934 ، حيث كنت أول من ولد فيها ..
أعمامي أربعة ، وإخوتي ثماني بنات وثلاثة أولاد ..
إخوتي من أبي " من زوجته الأولى " ثلاث بنات وولد ، وحين توفيت أمهم تزوج من أمي فأنجبت خمس بنات وولدين أنا وأخي المهندس توفيق ..
وتوفي أخي البكر " محمد " بعد عدة أيام من الإفراج عنه من سجن الفرنسيين ، وقد أمضى أسبوعا فيه بسبب طبعه ـ في المطبعة العلمية التابعة لوالدي ـ منشورا للكتلة الوطنية التي طالبت الشعب السوري بمقاطعة الانتخابات عام 1926 .. وكان أبي قد أسس المطبعة العلمية عام 1922 ، وشاركه فيها المحامي عبد الغفور المسوتي ، وهي دار للنشر أيضا ، أصدرت بين عامي 1922/1947 ما يزيد على سبعين كتابا ، ومنها كتابان لوالدي الشيخ راغب :
" إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء " ..
و" الأنوار الجلية في الإثباتات الحلبية " ..
في عام 1932 استقل والدي بالمطبعة ..
وفي عام 1947 ، باعها إلى أحد العاملين فيها وهو محمد بكري قطاع وأبناء عبد الودود كيالي  ، وذلك بعد أن رفضت أنا العمل في المهنة  ، وكانت المطبعة في حلب ، شارع البيلوني ، ما بين العقبة وقسطل الحجارين ..
ينتهي نسبنا ـ كما يقول والدي رحمه الله ـ " بأغلب ظنه " إلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، فحين أصاب حلبَ زلزالٌ أطاح بإحدى غرف البيت ومحتوياتها في حي قلعة الشريف ، تلِفتْ لفافة شجرة النسب من جملة ما تلف ..
بين الثالثة من عمري والرابعة قرأت " جزء عمّ " على الشيخ محمد الحجار ، ثم تابعت عند الشيخ اسبير في جامع الظاهرية أمام قلعة حلب " ..
والظاهرية : نسبة إلى الملك الظاهر ابن صلاح الدين " ..
درست الابتدائية في مدرسة العرفان ، بين عامي 1940/1945 ، وكان الصف الخامس نهاية المرحلة الابتدائية ..
ودرست الصف السادس في المدرسة الثانوية الثانية التي تقع في بيت العادلي قرب سوق القطن ..
في عام 1947 التحقت بالثانوية الشرعية بحلب ، وتخرجت فيها عام 1952 ..
وفي نفس العام والوقت ، نلت الشهادة الثانوية العامة الموحدة .. وكان ممكنا التقدم لامتحانات الشهادتين ..
انتسبت إلى جامعة دمشق ـ كلية الآداب ـ قسم التاريخ ..  
ورغم أني حاصل على الشهادة الثانوية العامة الموحدة التي تسمح لي بالانتساب إلى كلية طب الأسنان ، إلا أني درَست التاريخ حبا به ، وممارسة لهوايتي ، وفضلته على طب الأسنان ..  
كانت رسالة تخرجي في الجامعة بعنوان :
الشيخ محمد راغب الطباخ : حياته ، آثاره ..
بإشراف الدكتور عمر فروخ ..
تخرجت في جامعة دمشق عام 1957 ، ودخلت مسابقة لاختيار مدرسين في وزارة التربية ، ونجحت ، وعُيِّنت في ثانوية الرشيد بالرقة ..
مكثت فيها ثلاث سنوات حتى استدعيت لخدمة العلم ، وكانت بين عامي 1960/1962 ، متزامنة مع الوحدة بين سورية ومصر ، ومع الانفصال الذي وقع بعدها ..
وفي ثانوية الكواكبي بحلب 1962/1963 ، حللت بدل الأستاذ محمد خير فارس كمدرس للتاريخ ، فخصّصتُ حصة أسبوعية يقوم فيها ـ طوعا ـ طالبان بالإعداد لإعطاء الدرس ، فأكلفهما بتحضيره ، وأزودهما بالمصادر اللازمة ، بحيث يشرح أحدهما الدرس ، والآخر يناقش فقراته ، ويبدي الملاحظات المحفزة للنقاش مع بقية الطلاب ، وكان الطالب فتح الله رشيد أشد الطلاب نباهة في الشرح والمناقشة ..

في العام الدراسي 1963/1964 ، ذهبت إلى السعودية مدرسا مُعارًا ، وبقيت أربعة أعوام حتى عام 1967 ..
وبالتزامن مع عدوان الصهاينة على العرب في عام 1967 ، كنت مدرسا في ثانوية إبراهيم هنانو ، فاستدعيت لخدمة الاحتياط في الجيش ضمن التعبئة العامة التي جاءت إبان العدوان ، لكن المدة لم تطل أكثر من شهر واحد ..
في عام 1969 انتقلت إلى ثانوية المأمون فثانوية المتنبي ..
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1967/1975 كنت مندوبا لوزارة التربية مكلفا بالإشراف على امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية في عدد من المحافظات ( إدلب وطرطوس واللاذقية ودير الزور والحسكة ، إضافة إلى حلب ) ..
انتـُدِبتُ في عام 1970 مديرا للثانوية السورية ( الأرمنية ) الخاصة المختلطة لمدة عام واحد ، ثم آثرت العودة إلى التدريس ..
في عام 1975 ، حصلت على استيداع من العمل " إجازة بلا راتب " ، وسافرت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة .. عينت مدرسا في مدينة " العين "، ودرّست في مدرسة زايد الأول والمعهد العربي الإسلامي .. وكان من بين طلابي خمسة من أبناء رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ..


في المواقف السياسية خلال الجامعة :
ـ الحزب القومي السوري :
دُعيت للانتساب إلى الحزب القومي السوري ، فأجبتهم باختصار :
أنا عروبي ، رضعت العروبة من والدتي .. لن أصدق أسطورة اسمها " سورية " ..
ـ الحزب الشيوعي السوري :
ثمة صديق لي ، دعاني للانتساب للحزب الشيوعي السوري ، فأجبته :
إني معجب بالماركسية كمذهب اقتصادي لأنها تحقق العدالة الاجتماعية ، لكني أرفض أيديولوجيتها بشكل قاطع ..
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي :
كما دعيت لأكون عضوا في حزب البعث ، من قبل أحد طلابي ، وكان أمينا لفرع من فروع الحزب ، ويثق بي وبنزاهة أفكاري .. فقلت له :
أنا رجل وحدوي .. حقِّقوا " الكلمة الأولى من شعاركم " ( وحدة حرية اشتراكية ) بوحدة مع العراق ، وقتها ، سأكون منكم ومعكم .. وإن رفضتموني سأكون الجندي المجهول ..
فأجابني : " منطير من مراكزنا " ..
ـ الإخوان المسلمون :
أنا نشأت في أسرة متدينة ، وكان والدي ـ الشيخ راغب الطباخ رحمه الله ـ رئيس جمعية " البر والأخلاق الإسلامية " ، وله صداقات مع جمعية " الأرقم " ، وكان بعض طلابه من أعضائها .. ولما تحولت جمعية الأرقم إلى تنظيم باسم " الإخوان المسلمون " ، طلبوا من والدي اندماج الجمعية التي يرأسها بهم ، فرفض قائلا :
" لكم مجالكم ولنا مجالنا " ..
وقد رفضت أنا أن أكون عضوا في تنظيم " الإخوان المسلمون " في المرحلة الثانوية رغم أني كنت أمارس الرياضة في مقرهم أنا والسيد " أديب النحوي " ..
وكلانا لم نكن منظمَيْن في حزبهم ..
وكرروا عليّ الطلب بالانتساب لحزبهم في سنوات الدراسة في جامعة دمشق ، فقلت لهم :
" عندما أبلغ سن الأربعين سأفكر في العمل السياسي ، وأنتم لا تصلحون للسياسة .. أنتم لا تصلحون إلا كجمعية خيرية " ..
وهكذا ..
كان شعوري بالعروبة وبالحضارة الإسلامية هو الذي صرفني عن الحزبية ..

أم خليل :

في مدينة الرقة حين كنت مدرسا هناك ، استأجرت غرفة في بيت تسكن فيه أم خليل وحيدةً ، وهي امرأة عجوز وتدخن بشراهة ونهم ..
وكانت عادة التدخين متفشية في أوساط المجتمع والطلاب معا ، وحاولت ـ ما استطعت ـ أن أبين لهم مضاره لعل بعضهم يقلع عنها ..
" لكني لم أفلح ، بل كدت أنا أن أدخن " ..
ولم أجد وسيلة مع أم خليل هذه تجعلها تخفف التدخين على الأقل ، ومع ذلك ، لم تكن تكف عن دعوتي للتدخين ، على أساس : " لو أنه ضار لما عاشت حتى هذا العمر وهي مدخنة منذ خمسين عاما " ..
كنت جالسا في غرفتها ، فألحّت عليّ أن أجرّب هذه السيكارة "  البافرا " ، وقد لفتها بأصابعها المعروقة بعناية ، ولم تبلل طرف الورقة بريق لسانها ، حرصا منها على ألا يلامسَ ريقـُها شفتيَّ إذا وَضعْتُ السيكارة في فمي ..
ونزولا عند إلحاحها ،أخذت اللفافة ، وقلت لها : سأضعها في فمي ، لكني لن أشعلها ..
في هذه اللحظة تماما ، دخل علينا أحد طلابي المدخنين ، وكانت هي عمته ، ورأى السيكارة بين شفتي ، فلم يصدق أنه ضبطني بالجرم المشهود ، وقال لي مباشرة :
" يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون " ؟! ..


الأبحاث والدراسات :
ـ بحث عن ( آقِ سنقر ) حاكم حلب الأتابكي التركي ..
ـ بحث عن الاتحاد الألماني .
ـ أبحاث عن معركة نهاوند ، ومعركة اليرموك ، وفتوح مصر .. " هذه كتبت خلال أدائي خدمة العلم " ..
ـ بحث بعنوان : حرب 1973 .
ـ الإدارة في دولة الإمارات ..

وأيضا في مرحلة وجودي في الإمارات ، مارست كتابة القصة القصيرة ، وانضممت إلى الملتقى الأدبي في مدينة العين ..
ومن القصص التي كتبتها :
" وداع ـ الخيط المائل ـ بائع اللبن ـ الوظيفة الجديدة ـ الحافلة والحمال " ..

ـ أقوم حاليا بإعادة كتابة رسالتي الجامعية ، بعد أن توفرت لي وثائق كثيرة عن والدي الشيخ محمد راغب رحمه الله ..
منها :
وثائق تتعلق بمراسلاته مع بعض المستشرقين ، مثل :
( ريتر ، ماير ، مار جليوس ، كارل سوس هاين ، أفرميد الكرنكوي ، وهو ألماني عاش في لندن وحين أسلم سمى نفسه سالم الكرنكوي )
واستهدفت هذه المراسلات تبادل الخبرات ، والتعرف على المخطوطات الموجودة في مكتبات أوربا والهند ..
ـ وقد راسَلَ أيضا عددا من العلماء العرب :
شكيب أرسلان .. اسكندر معلوف ، محسن الأمين العاملي ، أحمد زكي باشا ، داوود جلبي ، عبد الحي الكناني ، محمد ناصيف ...) ..


عوامل أثرت في شخصيتي :
فلقد كان والدي قدوتي .. واتسمت علاقتي به منذ صغري بالوضوح ..
فكان يختار الوسطية في جميع الأمور ، ولهذا اتبعت خطاه ..
وكنت أسأله عن أي استفهام في التاريخ أو العقيدة الإسلامية ..
سألته مرة : بمَ تشبهُ الإسلامَ ؟؟
قال : كالماء العذب للإنسان ..
فإن كان نهرا فليكرع منه ما يشاء ..
وإن كان بئرا ، فللمريد أن يغترف منه حسب طاقته ..
وهو جواب رمزي وذو دلالة :
فالنهر : للسلفيين " جماعة الحديث " ..
والبئر : للمتصوفة ..
وكان والدي وسطا بينهما ..
ـ المطالعة في الموسوعات العلمية ، وخاصة فيما يتعلق في الكون ..
ـ يداخلني شك أحيانا في كل شيء ، فتجلت في هذه عظمة الله تعالى في نظري ، فكانت المطالعة والتلفاز ، فقطعت الشك باليقين ..
ـ أدمنت مطالعة التاريخ الحديث ، لأن بعض مناهجنا تجانب الحقيقة ..
ولم أتوقف عن المطالعة إلا في الأسبوع الأول من زواجي ..
وتوقفت شهرا إبان نكسة حزيران 1967 ..

من وثائقي :
ـ مناشير للموالاة والمعارضة الوطنية :
من الموالين للفرنسيين : شاكر نعمت وكان ضابطا في الجيش التركي ..
ومن المعارضة الوطنية المعادية للفرنسيين :
إبراهيم هنانو ، وسعد الله الجابري ، وعبد الرحمن الكيالي ، ورشدي الكيخيا ، وناظم القدسي " ..
ورشدي الكيخيا ، هو الرجل الوحيد الذي رفض أن يوقع على منشور الانفصال  رغم عداوته الشديدة للرئيس جمال عبد الناصر .. وقال : نحن طلاب وحدة ولسنا انفصاليين ..
أما ناظم القدسي ، فقال مقولته المشهورة : أن نتعاون مع الانفصاليين ، أفضل من أن تضيع البلد .. كما رفض أن يعطي أوامر للجيش بالتصدي لأنصار ثورة عام 1963 ..

مواقف :
 ـ ما زلت حريصا على وطني ، ولا أقبل ديمقراطية أمريكا الزائفة ومؤامراتها على سورية ..
وأرغب أن يتم إصلاح الفساد الموجود في سورية ، بأيد سورية وطنية ، سواء كانت مؤيدة لنظام الحكم أو معارضة له ، لكن ، يجب أن يكون عملها لخدمة الوطن فقط ..
ـ أنا مع الوطن .. أرى المؤامرة الأمريكية الصهيونية واضحة على بلادنا تحت عنوان " الفوضى الخلاقة " ..
ـ ما جرى في تونس ومصر ، استغلته أمريكا لصالح مشاريعها ، وكان لا بد من التدخل الأمريكي إنهاء دور حسني مبارك ، بعد أن سقطت كل أوراقه ..
 ـ ثمانون مليون أمريكي يدينون بالمسيحية التوراتية ، ويؤمنون بأن المسيح لن ينزل على الأرض إلا إذا قامت " مملكة إسرائيل " ..
وجورج بوش كان توراتيا .. خرج علينا بـ " الفوضى الخلاقة " لمساعدة الصهاينة ، فنفذت الخطة في عهد أوباما ، وفشلت في سورية إن شاء الله ..
ـ نحن نحتاج إلى فقه جديد ، وتفسير جديد يتلاءم مع عصرنا الحاضر ، مع الاعتماد على الثوابت القطعية ، مستفيدا أيضا من فقه جميع المذاهب الإسلامية لصياغة القوانين الوضعية المناسبة للمجتمع ..
ـ عشت بعيدا عن السياسة ، فلم أنسجم معها ، لأني كنت أريد أن أفهم الحقيقة الخالصة ، فلم أجدها ، فابتعدت إلى العلم ..
ـ ابنتي هزار مخزن أسراري الأول ، وابني راغب ، الثاني ..
ولـ " هزار " مكانة أقرب إلي ، أجيبها على أدق الأسئلة ، ولها " دالة "على محيطها لا يحظى بها غيرها ..
ـ أنا من أنصار الزوجة الوحيدة ..
فـ " الغيرة ، كالملح في الطعام .. زيادته تصرفك عنه ، ونقصانه تفقدك نكهته " ..

في الإجراءات :
صادفتُ اسمها على صفحة الفيس بوك .. وحين استعرضت أسماء أفراد عائلتها وأصدقائها ، أيقنت أنها السيدة هزار بنت أبي راغب الطباخ ..
كتبت لها رسالة فيسبوكية معبرا عن رغبتي بالاطمئنان عن والدها والتواصل معه ..
كان ذلك ربما في الشهر الخامس ، فلم يتأخر الرد أبدا .. وجاءني " فورا " بعد قرابة ثلاثة أشهر ..
وحين كنت قريبا من بيتهم ذات صباح رمضاني ، اتصلت بأبي راغب ، فلم يتعرف صوتي ، ولم يكن في البيت ، واعتذر مني بأنه سيدخل بعد يومين المستشفى لإجراء جراحة لعينيه ..
بعدها لم يتسن لي لقاءه ، فبدأت أفكر بحل إجرائي للحصول على بعض المعلومات ، لأستطيع من خلاله أن أكتب هذا المقال ، الذي كتبت عنوانه على الملف ، وتركته ماثلا أمامي على سطح المكتب ..
فكرتُ في كتابة بعض الاستفسارات وإرسالها إلى السيدة هزار .. لتعرضها على والدها ، وليجيب على الأسئلة قبل إعادتها إلي .. فبدأت التحضير ببطء وتردد ..
 لكن المفاجأة كانت أسرع منا ، تلقيت اتصالا من رقم محلي لا أعرفه ، لكني عرفت صاحب الصوت سريعا ، واتفقنا أن نلتقي في أي مكان من البلد ، وقريبا ..
وتم اللقاء في نفس المكان الذي أمضينا فيه وقتا ممتعا في صيف 1990 بعد أن تغيرت وتطورت كثير من ملامحه ..
التقينا لثلاث ساعات في منتزة " المُبَزَّرَة " في مدينة العين في دولة الإمارات ..
قلت له : أشعر أن الله سبحانه وتعالى قد أحاطني برعاية خاصة ، فحقق لي أمنيتي باللقاء هذا ، وبأسهل مما تخيلت ..
كنت أستمع وأكتب وأناقش وأستفسر وأحتسي القهوة والشاي ، بلا نرجيلة مع الأسف ..
كان أبو راغب متجليا ، يستحضر كل الماضي الذي أسأله عنه بكبسة زر .. لم يتلكأ .. ولم يتردد .. ولم يَبدُ عليه شيءٌ من الإعياء ، فأصر أن نذهب إلى الغداء معا .. ثم افترقنا على اتفاق بموافاتي بريديا ، ببعض الأوراق والمستندات والوثائق التي يمكن أن تضفي على المقال زخما تاريخيا ..
وحين استعرضت الصور التي التقطتها له خلال اللقاء ، لم ترق لي فنيا ..
سأنتظر فرصة أخرى .. 
سلاما أبا راغب .. قبلة محبة على جبينك ..
وعذرا ـ أبا راغب ـ عن التقصير ..

الأربعاء ـ 19/10/2011







الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

فيسبوكيات بريئات



فيسبوكيات بريئات

أيمكن أن يكون كل ذلك مصادفة ؟!
أنا لا أعرف ، لكني لا أستطيع أن أحسن الظن .. ولا يمكن أن يكون كله داخلا في المجالين : النفسي والمجتمعي السلبيين ..
ولو انتقلنا إلى التشخيص الدقيق ، لوجدنا كمّا هائلا متنوعا من الأسئلة الاستفتائية الاختبارية الفيسبوكية ، على الطريقة " الأمريكية المباركة " التي شاعت مؤخرا ـ وتحتاج الإجابة عنها ـ كما يقولون ـ إلى " قوة قلب " ..
 فما عليكم إلا أن تقووا قلوبكم ، وأن تحسنوا اختيار وانتقاء الجواب من الخيارات الممنوحة لكم ، بكل المحبة والأريحية والكرم الأصيل ..

(( وهذه نماذج أسئلة هنا ، منسوخة " بعَجَرها وبَجَرها وبدمها الطمثي " ، وبأخطائها الفاقعة إلى حد الضَرَس )) ..
  
ـ هل يتحول الحب إلى كراهية ؟؟
ـ هل خانك صديقك أو حبيبك ؟؟
ـ هل كذب عليك حبيبك أو صديقك ؟؟
ـ هل التضحية مطلوبة في الحب ؟؟
ـ هل أنت مع أو ضد الحب من النظرة الأولى ؟؟
ـ ( حب بلا خيانة ) ( صداقة بدون مصالح ) الشباب أيهما أكثر خيانة ؟؟
ـ بتعرف تساوي فورمات لكومبيوترك لحالك ؟؟
ـ في رأيكِ : أفضل المواقف تتمنينها في لحظة رومنسية مع حبيبك هي :
تحت المطر يحميني بمظلته .
في أحضانه أمام مدفأة في الشتاء .
في أحضانه يوم فرحكِ .  
ـ إذا في شخص لزق فيك وأنت مو طايئو شو بتعمل ؟؟
ـ لو صار ئلك مجال تغير اسمك .. بتغيرو ؟؟
ـ أنت مع أو ضد أنه الواحد يحط أبوه بس بكير بدار العجزة ؟؟
ـ إذا كنت متضايق شو أول شي بتفكر تساويه ؟؟
ـ هل الخيانة سبب كاف للطلاق ؟؟
ـ هل ارتكبت أخطاء لم تسامح نفسك عليها حتى اليوم ؟؟
ـ هل أهدافك المستقبلية واضحة ؟؟
ـ في شي مرة عملت تبييض لأسنانك ؟؟
ـ أحلى لعبة ( شدة ، كوتشينة ) ... ؟؟
ـ شو رأيكم باسم دينـّا ؟؟ " المقصود : ديننا " .
ـ شو أطيب أكلة من هدول الأربعة ؟؟
ـ كم نسبة حبك لريال مدريد ؟؟
ـ أكبر سبب بخلي المرأة تخون زوجها ؟؟
ـ هل أنت مع الزواج المدني ؟ يعني أي شب من أي دين فيو يتجوز أي بنت من أي دين ؟
ـ من هو أهم رمز ثوري في العالم في القرن العشرين ؟ 
ـ إذا انخطبتي بشكل تقليدي وبعدين لقيتي فتى أحلامك شو بتعملي ؟؟
ـ أنتي من أي نوع من البنات ؟؟
ـ  في ظل الظروف الاقتصادية الجديدة هل تغيرت سياسة إنفاقك على نفسك أو على البيت والأسرة ؟؟
ـ إذا اكتشفت أنو الماما عمبتخون البابا شو بتعمل ؟؟
ـ بصراحة : حسيت / ي حالك حقير شي مرة ؟؟
ـ للمحجبات : ليش أنت محجبة ؟؟
ـ شو رأيك أنو سوريا تكون دولة علمانية ؟؟
ـ للبنات : إذا حبيتي رجال واكتشفت أنو متزوج ؟؟
ـ كيف تعبر عن غضبك ؟؟
ـ لو كنت مصادق بنت وانفصلت عنها وشفتا مصادقا شخص غيرك بتغار ؟
ـ هل تؤيد منع مكبرات الصوت في المساجد والأجراس في الكنائس احتراما للحريات الشخصية ؟
ـ هل أنت مع إعادة مادة الفتوة واللباس العسكري ؟
ـ هل يعيب امرأة أن تكون مطلقة ؟؟
ـ هل أنت شخص تحب تامر حسني ؟
ـ هل تحترم الديانات الأخرى في مجتمعك ؟

وهناك عدد لا متناه من الأسئلة المتنوعة ، بدءا بـ " المحرمات " الأخلاقية والسياسية ، وليس انتهاء بمثيلاتها الاجتماعية والسلوكيات الفردية ..



هذه النماذج غيض من فيض آسن و " كطعم العلقم " ، ولا أستطيع الحكم عليها ، ولا على توجهاتها ، ومقاصدها " النبيلة " ، وغائيتها الآنية والمستقبلية ..
أهي مجرد تسلية لا غير ؟؟!!
أيمكن أن تبلغ بنا السذاجة والسطحية هذا الحد ؟؟!!
ومرة أخرى : أهي بريئة بالفعل ؟؟!!
إن قسما كبيرا منها يحمل من الخبث والخديعة ما يحمل ، خاصة في موضوع السؤال ونصه ، وفي شكل تلقي الجواب ، وفي أنواع الاختيارات المتداولة .. فيستسهل " الفيسبوكي " الإجابة وهو متكئ ، و"يطج كليكه " بثقة عارمة ..
لكنه أحيانا ، وقبلئذ ، قد يصفن ، ويفكر ، ويبدأ الـ " serch " في أعماق ذاته عن شيء من هذا القبيل ، ليدعم جوابه ـ نفسيا ـ بما يؤيد الحالة الموصوفة ..
وقد يكون رد الفعل على السؤال ، هو تماما ، المطلوب تحقيقه من وراء طرحه .. وقد يكون ثمة أمور أخرى :
فيبحث عن الكراهية التي أنسته الحب ودمرته ..
ويبحث عن الخيانة التي أصابت منه مقتلا بطعنة في الظهر ..
ويبحث عمن كذب عليه ، فيلتهب الجرح ويعيد استرجاع لحظته المريرة التي سببت له ألما ، بالكاد نسِيَه ..
وينقـِّب في ذاكرته عن مواقف صديقه ويقرنها بما سمعه من فلان وعلان ، فيتشوش وترتبك قاعدة المعلومات لديه ، وتتداخل وتشتبك الفيروسات في تلافيفه ، حتى يستوي وينزل " نيفا " مثل " القـَشة والكوارع المسلوقة " ، فلا ينجيه من ذلك كله إلا :
الفرمتة ..
وما أدراك ما الفرمتة !!
ولأن " الحب " ـ كحالة إنسانية عامة ـ يجب أن يكون الحالة الإنسانية " الافتراضية " بلغة الكومبيوتر ، فيجب أن تحل في الصدارة ، في سلم الأولويات القيمية ، التي تساعدنا جميعا على الاحتفاظ بالحد الأدنى من السلوك الإنساني : الخلاق والمبدع والمنفتح والمتسامح والمتجاوز لمطبات القرون السالفة وحواجزها ، كي نطمئن على مستقبل الأجيال وطاقاتها ..
ولو نظرنا في موضوعات تلك الأسئلة وأخواتها ، لوجدنا أنها ذات وجهين ، كالعملة ، ينعكسان " بردا وسلاما " على المتلقي :
وجه ظاهري : هادئ ، واثق ، بريء .. يوحي لك " بحريتك المطلقة " في الاختيار ..
ووجه مستور : استفزازي ، مُنطوَط ، خبيث ، يجبرك على أن " تختار " ما يُراد منك عبر صيغة السؤال ، ومحدودية خيارات الإجابة الموَجَّهَة إلى الهدف المقصود .. 
وبنظرة سريعة على النماذج أعلاه ، يمكن تثبيت كلتا الصفتين ، كما يمكن إضافة صفات أخرى تترابط معهما ..
وفي كثير من الأسئلة ، نجد تعزيزا لمفاهيم فاسدة أو سيئة أو دخيلة ، أو لم نعتد على تداولها وعلانيتها على الأقل ..
كما تتم عملية تحويل الفضائل إلى رذائل ، أو بالعكس ، وتكريسها كقيم ناجزة ، لا تقبل نقاشا ولا تشكيكا ، كونها معروضة " افتراضيا " على أنها من أكثر " القيم " " بداهة " ، فمن باب أوْلى أنها لا تحتاج لأدلة ولا لبراهين لإثبات يقينيتها ..
وربما تكون هذه من أخطر الأخطار الناجمة عن هذه " الفيسبوكيات السعيدة " ، لاسيما حين يسجل لك الآخرون إجابتك عن سؤال معين ، ثم يواجهونك بها ، ويحشرونك في الزاوية إن قلت لهم : لم أكن أعني ذلك في جوابي ..
عندها يتهمونك بشتى التهم التي تجرُّها عليك ، وتسبِّبُها لك " كليك " طائشة ، ربما ..
وأخيرا : هل يحتاج كل ذلك ـ برأيكم ـ إلى " قوة قلب " حقيقية ؟؟
أم يحتاج إلى " قوة قلب " منطوقة باللهجة الفلسطينية الرائعة ؟!.
إننا بحاجة لتنفيذ الإجابة عن سؤال وحيد :
ـ كيف نسيطر على الكراهية ونحتويها ، ونحولها إلى حب حميم ؟؟
عشتم ، وعاشت الأمة الفيسبوكية ..

الأربعاء ـ 13/10/2011