الجمعة، 28 ديسمبر 2012

كل ما في الأمر


كل ما في الأمر

 كل ما في الأمر ، أنه :
تحجّرَ البؤبؤان والمِحجران والمِدمعان والشفتان ..
وتجلط الوريدان والشريانان والأذينان والبطينان والأبهران والمِنخران ، والسبيلان ..
وبُترت الساقان والذراعان ..
وحدهما الأذنان مشرعتان بكامل طاقتهما الصملاخية ..
تتقبلان التعازي والشتائم ، وبقية أصوات الموسيقا التصويرية المصاحبة ..

كل ما في الأمر ، أنه :
لا طحين ولا ماء .. لا خبز ولا غذاء .. لا وقود ولا كهرباء ..
ولا أوكسجين ولا هواء .. ولا أكياس دماء ولا دواء ..
وحدها هنا :
جثامين الشهداء ..

كل ما في الأمر ، أنه :
ليل ونهار ، ونهار وليل ، ( وكل في فلك يسبحون ) ..
فلا الليل ليل ، ولا النهار نهار ..
كل ما في الأمر ، أنه :
كثير من البشر ، قطعان ..

الخميس ـ 29/11/2012


أعتذر عن التأخر في النشر ، لاستمرار كل شيء على ما هو عليه ..

الجمعة، 16 نوفمبر 2012

زيارة .. زيارات


زيارة .. زيارات

ـ زيارة الزمن الضائع :

يتصل بك ليسألك إن كانت ظروفك تسمح باستقباله ..
فإن أهّلتَ به وسهّلت ، جاءك بعد أن يُودِعَ زوجته في بيت ما ، لتؤدي زيارتها ...
حتى إذا ما انتهى وقت الزيارة ، وحان موعد المغادرة ، تتصل به ، فيتلملم على عجل ، ويودعك على الباب الخارجي ، ويتذكر أن يدعوك لزيارته ..


ـ زيارة الأمر الواقع :

يتصل بك على الهاتف الأرضي ، فإذا رددت عليه ، عرف أنك في البيت .. ومع ذلك ، ومن قبيل تحصيل الحاصل ، يسألك : أأنت في البيت ؟
وقبل أن يصله جوابك ، يقول : أنا قادم إليك ..


ـ زيارة بالإكراه :

يتصل بك على الموبايل .. وإذ ترد عليه ، يسألك : أأنت في البيت ؟
فإن أجبته : نعم ..
قال لك : افتح لي ، أنا على الباب ..


ـ زيارة الزمن المتراخي :

يسألك : أأنت في البيت ؟
ـ نعم ..
قد آتي إذا سمحت الظروف !!


ـ زيارة افتراضية :

يسألك : أأنت في البيت ؟
ـ نعم ..
ـ سأوافيك بعد دقائق ..
ثم تتصل لتفك نفسك من الأسر ،
مستفسرا قلقا : تأخرتَ !!
فيقول وهو يمضغ لقمته :
لا شيء .. انشغلت ..


الجمعة ـ 16/11/2012

الأحد، 21 أكتوبر 2012

دمشق ـ دبي ـ 3 ـ حلب ـ اللقاء بعد الفطام




 كانت الهواتف والرسائل البريدية ، وسيلتي التواصل الوحيدتين مع الأهل والأصدقاء في سوريا .. فالشبكة الهاتفية ليست منجزة ولا كافية لتلقي اتصالاتنا في معظم البيوت والأماكن .. والاتصال صعب ، وإن حصل ، فإن جودة الصوت رديئة ، ولا يمكن لهذا الاتصال أن يتحمل أو يتسع لفيض العواطف والأحاسيس النابضة ، بعد شهور من المعاناة والغربة ..
لذا ، كانت الرسائل البريدية خير عون ومتسع ، وقد أرسلت أعدادا منها للأصدقاء والأهل ، وتلقيت كثيرا أيضا ، بما فيها بطاقات التهنئة بالمناسبات المختلفة ..

وفي مسكننا المشترك ، كان الأخ مفيد الأكثر قربا مني ، بهدوئه وواقعيته ، كوننا نتقاسم الغرفة ، ونتشارك الطريق إلى المدرسة ، فكان الأكثر تفهما لطبيعة علاقاتي وظروفي ، وهو الذي يفسرها للآخرين حين يفهمونها خطأ ..
بينما كان الأخ محمد مينو متأرجحا في قربه وبعده ، لحساسيته الزائدة ، وأنفته المفرطة التي لا تختلف عن الاشمئزاز في كثير من صورها وانفعالاتها ..
وفي المدرسة ، وبالإضافة إلى استمتاعي بنوادر " محمد شريف " ولطفه وأريحيته ، كان " نبيل زيدان " ذا شخصية واضحة ، دمثا ، لبقا ، مكلاما ، كريما ، سريع النكتة والبديهة ..
جنسيته وجيناته لبنانية صرفة ، يتقافز بمهارة على جميع الحبال ، ويتوق لبلوغ التميز ولو كان سرابا ..
لم يتوان في تقديم أي مساعدة أو خدمة لي ، كونه رآني بعينين منشرحتين ودودتين .. فتقرّب مني مفصحا عن تقديره الخاص واحترامه .. وسريعا ، ارتبطنا بصداقة حميمة ، وفتح لي بيته ، وقدمني لزوجته وولديه ..
كان شغوفا باقتناص فرصة وجوده في دبي ، راغبا بإكمال مشاريعه الخاصة في بيروت ، ليعود إليها سريعا .. بينما لم تبد زوجته السيدة ليلى في عجلة من أمرها ، وهي تقوم بالتدريس في إحدى الجامعات الخاصة ..
وامتدت ساحة العلاقات الشخصية ، وتوسعت مع تكرار اللقاءات بالصديق " زياد خليفة " وأبناء عمومته الذين وفدوا على الإمارات لتجارة " السكراب والقطع التبديلية " ، فجمعتنا سهرات ولقاءات ورحلات إلى الشواطئ والحدائق ، قضينا فيها أوقاتا لطيفة ..
وما أن حصلت على " الإقامة " ، حتى بدأت بإجراءات الحصول على رخصة قيادة السيارات .. وكانت المهمة شاقة وعسيرة لاختلاف القوانين ونظام الطرق ، ولضرورة التمرس بالقيادة بواسطة مدرب خاص ، يساعد على تجاوز الفحوص النظرية والعملية الصعبة ، رغم أني حاصل على رخصة سورية منذ أكثر من عشرين عاما ..
وفي الامتحان الثالث ، اجتزت العقبة بالحصول على الرخصة ، واستلامها في 31/12/1992 ، أي بعد شهرين تقريبا من البداية .. وكان ذلك ـ في منظور الأصدقاء ـ  نجاحا فائقا متميزا بالفوز وسرعته ، ويعدونها مساوية ومعادلة بالأهمية " لشهادة الدكتوراه " ، نظرا للصعوبات التي يواجهونها في الحصول عليها .
ومع اقتراب موعد العطلة الانتصافية ، نشطت الاتصالات بمكاتب السفر لحجز التذاكر ، وأدت إلى تقارب " نفعي متبادل " مع الأخ " ماهر عطار " الذي يدير مكتبا للحجز الجوي في مدينة العين ، حيث استدل على عنواني وزارني في البيت بصحبة زوجته وأطفاله ، ففرح بحصولي على الرخصة ، لأتولى قيادة سيارتهم في الطرق التي يجهلها بين الشارقة ودبي في معرض إنجازه لحجوزات مكتبه ، كما سهلت لجميع الزملاء مهمة حجوزاتهم أيضا بواسطته ..
وفي مشوار مشترك لنا إلى سوق " الحمرية " المركزي للخضار والفواكه بدبي ، التقيت ـ للمرة الأولى ـ الزميلتين " دعد وسهير "  وكانتا تقيمان في " سكن المدرسات " ، فتقصينا أخبار بعضنا ، وصودف أني أعرف أخت دعد وخالتها " أم أدهم " ، كما أن صديقي محمد نديم فتال شقيق زوج سهير ..
وفوجئت في اليوم التالي باتصال هاتفي في غرفة " المدير الجديد " لمدرستنا ، من الزميلة دعد تطلب مني أن اصطحب معي في رحلة العودة من سوريا ، الابنَ الرضيع لزميلتها سهير ، حيث تركتْه في حضانة أمها ، لعدم تفويت فرصة العمل هنا ..
وأبديت لها استعدادي للقيام بما أستطيع ، على أن تراجع أمُّه الدوائر المختصة لمعرفة المطلوب ، كبداية عملية للتنفيذ ..
عقب انتهاء المحادثة ، لاحظ المدير " عبد الله الحلو " اضطرابي ، فحوقل بعد أن عرف مني فحوى الطلب ، وأثنى على موافقتي " الإنسانية " ، وعرض مساعدته إذا احتاج الأمر ..
أعطتني تفويضا عند الكاتب بالعدل ، يسمح لي باصطحابه معي ، واستكمال إجراءات دخوله إلى الدولة ، كما استصدرت له أمُّه " إذن دخول " من دائرة الإقامة والجنسية ، على أن يتصل بي ذووها في حلب للتنسيق واستلام الطفل " محمد غسان فتال " في دمشق ، حيث مطار الإقلاع بالعودة ، وستنتظرنا بفارغ الصبر في مطار الشارقة ، وعلى أحر من الجمر ..

كان الشوق والعشق قد تكدّسا وتأجّجا طيلة الشهور الماضية التي نأيت بها عنها ، فتم اللقاء بعد الفطام ..
كان المستقبلون يعتقدون أني هائم شوقا لهم فقط ، والحق ، أني هائم بهم أيضا .. لكن هيامي الأول والأخير ، أني في ثنايا أردانها وحنايا أعطافها .. تعبق شوارعها برائحة الشتاء والبرد والليل ، وتتعطر أغصانها اليابسة بالمطر حنوًّا وخفرا ، فتنساب مع الشهيق بردا وسلاما ..
وحالي : " كمن يتشهّى وجهَ مَنْ عشقا " ..
لكن .. هيهات يعود الزمن إلى الوراء ..
كانت هذه المدة هي الأطول التي أغيب فيها عن حلب ..
إنها حلب ـ حلبي أنا ـ سقف بيتي .. شغاف عشقي .. أنيسة كينونتي .. أريج دمي .. نشيج دمعتي ..
مرت أيام الإجازة في حلب ، كنسمةٍ في صيفِ وجداني القائظ ، رغم أننا في أواخر أربعينية الشتاء من عام 1993 ..
ولولا صحبة السفر منها في العودة إلى دمشق ، لاصّاعدت من صدري شهقات الروح وسكراتها وغرغراتها ..
وفي المطار ، تمت الإجراءات ، واصطحبت الطفل " محمد غسان فتال " معي ، وتناوبت الزميلات على رعايته في الطائرة حتى وصولنا مطار الشارقة في ساعة متأخرة من الليل ..
وحين احتضنته أمه ، انبلج صبح جديد في أعماقي ، رافقته رعود هزتني بقوة ، وغالبت إجهاشا كاد يرميني أرضا ..
ولم يكن بوسعي سوى الهروب بعيدا عنهما تفاديا للمزيد ..
أما الآن ، ( فإن استحضار لحظات موجعة من الماضي ، يفاقم الألم أضعافا ، ويوشيه بمزيج من ألوان قاتمة ) ..
(انتهى الفصل الأول )
السبت ـ 20/10/2012

الصورة المرفقة : لـ : محمد غسان فتال ـ في الطائرة السورية باتجاه الشارقة ـ كانون الثاني 1993

الجمعة، 12 أكتوبر 2012

دمشق ـ دبي ـ 2 ومضى نهار آخر


ومضى نهار آخر 


 لم تكن المتاعب والمصاعب والقلق أقل في الفترة التي سبقت ـ منذ أن فتح لنا باب الولوج إلى هذا العالم ـ مما نحن فيه الآن ، على عكس ما كنا ننتظر ، خاصة أننا محسودون على إقامتنا في دبي ، حيث يحلم الكثيرون بالعيش فيها ، ويتنافسون على اغتنام فرصها ، واستغلال ظروف انفتاحها ، وسلاسة قوانينها ، وجودة وتنوع خدماتها ، ولطف وانضباط شرطتها ، وأريحية التكيف فيها مع كل ما يتمنى المرء ويشتهي ..
بل ، تنوعت المتاعب أكثر ، وازداد القلق أضعافا ، وزاد عليهما جوٌّ من الوحشة فوق الغربة ، وواجهتنا عقبات ومشاكل لم نكن نحسب لها حسابا ، ولم تكن في وارد يومياتنا ، نظرا لاختلاف الخطوط المجتمعية العامة والخاصة ، والتوجهات والعلاقات المسلكية التربوية ، وحيثياتها ونظامها ومندرجاتها والعلاقات التراتبية من القاعدة إلى القمة ..
كل ذلك في بيئة اقتصادية مدهشة في أساليب التسويق والعرض وتقديم الخدمات ، وبيئة اجتماعية متباينة الدرجات والمواقع والحقوق ، شديدة التنوع والخصوصية ، وذات فرادة وهمية مصطنعة قائمة على تميز خادع هزيل ..
إلا أن النظام العام مصون بقبضة فولاذية خفية ، مسيطرة مهيمنة موجودة في كل مكان ، تحس بها دون أن تراها أو تلمسها .. علاوة على جودة وتنظيم الخدمات العامة والخاصة ..
وكان باديا للعيان ، أن ثمة مشروعا تطويريا ضخما قيد التنفيذ ، بدأت تتضح أبعاده وملامحه ، من خلال مواقع تحديث وتطوير البنى التحتية ، ومن خلال التكاثر السريع للروافع البرجية في سماء المدينة ومحيطها كأنها أذرع سرطانية بهلوانية لا تهدأ على مدار الساعة ، في سباق محموم مع الزمن ، ما لبثت أن حولت الصحارى المحيطة إلى مدن سكنية وتجارية وصناعية ورياضية ومطارات ومنشآت ومناطق حرة وجزر صناعية ، تربط فيما بينها طرق سريعة وجسور وأنفاق بمواصفات أمان عالمية .. مما استوجب استقدام أيد عاملة وخبرات فنية بأعداد كبيرة جدا ، كان لها الفضل الأعظم في بناء كل الإنجازات التي تتحقق تباعا ، فنتجت عنها أزمات في السكن البسيط والمتوسط ، واختناقات وزحام شديد في الدوائر المتخصصة باستخراج تأشيرات الإقامة اللازمة لها ، وفي المواصلات والأماكن العامة ، وصارت الشوارع كلها أسواقا تغص متاجرها بمختلف البضائع والمستلزمات ، وبألوان وأشكال من البشر من أصقاع الأرض ..
وانتشرت ظاهرة  " المعارض ومهرجانات التسوق " في المراكز التجارية الكبرى والأسواق المتخصصة ، التي عمت كل الأرجاء ، وتعاظمت في قلب المدينة أيضا حركة التوسع العمراني أفقيا وعموديا ، ورافقتها على التوازي مشاريع توسيع الطرق والجسور والشبكات والمرافق العامة ..
في ظل تلك المعمعة ، كنا ـ في جو العمل ـ نشعر أننا نعيش وسط حقل ألغام ، غير آمنين ولا مطمئنين على حاضرنا ومستقبل عملنا ، حتى صارت الجملة السائدة لنا عقب انتهاء الدوام اليومي " على خير " :
ومضى نهار آخر .. " مقرونة بزفرة طويلة " ..
ذلك ، بسبب الحدود والضوابط الحاكمة بين المدرس والطالب ، من جهة ، ومع المدراء والموجهين المشرفين على العملية التربوية ، من جهة ثانية ، نتيجة الإجراءات القانونية والتربوية والتنظيمية التي تحكم العلاقة بين الأضلاع الثلاثة للعملية التربوية : المعلم والطالب و( ولي أمره ) والإدارة  ، والتي تختلف اختلافا جذريا عما هو عليه الحال في بلدنا ..
فقد كان الطلاب المواطنون حصرا ، شديدي البلادة والاتكالية والكسل واللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية ، ممزوجا بقلة الاحترام وحب الفوضى وعدم الالتزام والتأفف والتهرب من الواجبات والدروس ، لأنهم " ليسوا بحاجة للتعلم ماداموا قادرين على استخدام من يقوم بأعمالهم في كل ما يحتاجون " ..
 يضاف إلى ذلك شيء من العنصرية التي تشرّبوها في بيوتهم من خلال تعاملهم مع جنسيات العاملين فيها ، كالخادمات  والمربيات والسائقين ، حيث ينظرون إليهم بوضاعة وامتهان ، وأن مصيرهم مرهون بحسن تصرفهم مع " أرباب نعمتهم " ، وبانصياعهم لهم وتنفيذ ما يطلب منهم بلا تردد ولا تذمر ولا تلكؤ ولا نقصان ، فصاروا يعتقدون أن كل من جاء لبلدهم ، إنما هو عامل أجير لديهم ، " يسلبهم " أموالهم لقاء عمل " بسيط " من " واجبه " أن يقوم به ، وعليه تقديم " خدمته " لهم صاغرا راضخا ، ومن فم أبكم ، كما يفعل كثير من أبناء الجنسيات الوافدة ..
وبالنتيجة : يتساوى أمامهم كل الوافدين ، فلا يختلف عندهم المدرس " الوافد " عن هؤلاء ..
وكان التماس الأول والمبكر والمباشر لي ، مع ولي أمر أحد الطلاب :
انتحى بي وكيل المدرسة ( اليمني الأصل ) جانبا عند انصرافنا ليسألني باهتمام : هل ضربت أحدا من طلابك اليوم ؟
نفيت له مستغربا سؤاله .. فقال : إن ولي أمر أحد الطلاب يريد مقابلتك .. وأشار بيده إلى غرفته ..
حييت الرجل ، ومددت له يدي مسلما ، فترك عصاه من يمناه المرتجفة المعروقة ، ومدّها دون أن يعتدل من شبه استلقائه على الكرسي أمام الطاولة ، متجها إلى الباب ..
بدا طاعنا في السن ذا لحية طويلة مرتجفة أيضا ، وبالكاد خرجت من بين بقايا أسنانه بضع كلمات لم أستطع التقاط معانيها ، نظرت إلى الوكيل مستفهما ، فأعادها :
يقول : إنك ضربت ابنه على رقبته في طابور الصباح ..
جلست قبالته محاولا أن أتذكر أحداث الطابور ، فلم أعثر على ما يجعلني أضرب طالبا .. قلت للوكيل : أنا لا أذكر ، لعلي أعرف الحدث إذا رأيت الطالب .. أين هو ؟
نهض الوكيل خارج الغرفة ، وعاد معه أصغر طلابي حجما .. سألته : كيف ضربتك ؟ ولماذا ؟ قال : وضعتَ يدك على قفا رأسي وشددت شعري .. ( وكنت فعلت ذلك لشفقتي عليه ممن يسخرون من ضآلة حجمه ) ..
شرحت ذلك للوكيل ، ليقيني أن أباه لن يفهم قصدي .. فأرعد الأب وأزبد بعد أن " ترجم " له الوكيل ذلك بطريقته ، فراح يهددني ويتوعدني ملوحا بعصاه ، وبأنه سيشتكي حالا للوزارة لـ " تفنيشي " .. أي : ( لإنهاء عملي ) .. وهي لفظة إنجليزية " كابوسية مرعبة شائعة ، تقض مضاجع الوافدين عموما " ..
ووسط دهشتي من حركاته وأقواله وهو يهتز فوق كرسيه ، قلت له واقفا : اسمع يا هذا : كنت أعتقد أننا جئنا هنا لنعلم ونربي أبناءكم ، لكني أرى أن آباءهم أولى بالتربية منهم ..
فوضع أحدهم يده على فمي من خلفي .. وهو يرجوني ألا أكمل ، كان ذاك زميلنا " نبيل زيدان " .. ثم أخذني بين ذراعيه باتجاه الباب الذي تجمع حوله عدد من الزملاء منتظرين نهاية المسرحية .. تأبط نبيل ذراعي متجها إلى غرفة المدير المجاورة ( شغرت بعد انتقال المدير وعدم تكليف بديل ) ، وتبعنا مفيد ومحمد شريف الذي توعدني ضاحكا : لم تر شيئا من وقاحتهم بعد .. لا بد أنك ستعتاد عليهم ..
ثم جاء الوكيل راغبا أن نرافقه بسيارته ليوصلني أنا ومفيد إلى البيت ..
في الطريق ، قلل الوكيل من أهمية كلام هذا " المطرزي الشيبة " .. وحين تساءلت عن معنى كلمة " مطرزي " ، قال : تعني أنه من أتباع الشيوخ وملازميهم للخدمة ككلاب الصيد " ..
وتحدث ناصحا لنا من خلال تجربته في العمل طويلا في هذا البلد ، حيث اختلفت حال العلاقة بين المدرس وطلابه في السنوات الأخيرة .. وما كان جائزا للمعلم قبل سنوات صار محرما عليه ، بعد أن تعاظم شأن الدولة وصارت مقصدا للكثيرين .. وأن الدولة تبني المدارس والمنشآت وتزودها بكل ما يلزم ، وتستقدم المدرسين وتقدم كثيرا من المغريات المالية للطلاب وأولياء أمورهم ..
لكن ـ حسب رأيه ـ ليس ليتعلم الطلاب ، وليس المطلوب أن يتعلموا ، إنما كي تسد الدولة الذرائع ، وكي لا تُتهَم بالتقصير تجاه مواطنيها ..
وأضاف : أنا اعرف أن كلامي خطير وجريء جدا ، وستكون منعكساته وخيمة علي إذا أشيع عن لساني .. ولن تسمعوه من أحد غيري ..
لكن أقول لكما هذا الكلام لأني أفهم نفسية المواطن السوري المختلفة عن غيره ، وأعرف ثقل ووطأة استفزازاتٍ على هذه الشاكلة ، ستواجهكم جميعا ، كما واجهت غيركم ..
وفي البيت ، حين رويت ما حدث للزملاء ، ضحك محمد مينو ، وقال : اسمع هذه : أحد المدرسين المناوبين ضبط حالة لواطة في حمامات المدرسة ، فأبلغ المدير الذي استدعى ولي أمر المفعول به .. فجاءت أمه صارخة في وجه المدير : وايش بلاك تستدعيني ؟ أي : ( لماذا تستدعينني ) ؟
فأخبرها المدير بالحادثة ، فعادت تصرخ :
وَيْ وَيْ وَيْ .. كنت أظنه يتتن ( يدخن ) !!! هو خنيث وأبوه خنيث ويده ( جده ) خنيث .. هو يتخنث الحين ( الآن ) وباجر ( غدا ) يخنث غيره !!
ثم نهضت خارجة من مكتب المدير ، وهي تردد مستنكرة ساخرة : كنت أظنه يتتن .. كنت أظنه يتتن ...
طبعا ، لم تكن هذه هي الحوادث والنوادر الوحيدة .. بل كانت ـ لكثرتها وتنوعها وغرابتها ـ  كالأمثال السائرة على كل لسان ، ولا يكاد يمر يوم دون مشكلة أو حادثة واحدة على الأقل ، مع كل واحد منا .. والمحظوظ ، هو من لا تتطور مشكلته لتصل مفاعيلها إلى ولي الأمر أو الإدارة ..
وكان أسوأ القلق الذي ينتابنا ، حين تقع المشكلة يوم الخميس ، فيمر يوم الجمعة طويلا ، ثقيل الوطاة ، انتظارا لما قد يسفر عنه يوم السبت من تفاعلات مشكلة يوم الخميس ..
فيما بعد ، صارت عطلة نهاية الأسبوع يومين ، فتنامى هذا القلق سوءا ، واتسعت دوائره ، حتى صار مصدر نكد للأسرة ، يمتد طيلة يومي العطلة ..
ولم تكن هذه الحوادث محصورة بين المدرس والطالب ، فقد تحدث لنا عدد من الموجهين الاختصاصيين الذين زارونا في البيت ، عن كثير من معاناتهم مع الطلاب أثناء حضورهم الحصص ، كنتيجة حتمية لضعف تأثير الإدارة في قدرتها على الضبط العام ، أو لضعف قدرة المدرس في حصته على فرض الانضباط في حضرة الموجه على الأقل ..
ولعل الوجه الآخر من المشكلة هذه ، يكمن في طريقة تعامل كل مدرس مع البيئة المدرسية ، وفي قوة شخصيته ، وقدرته على اكتساب احترام طلابه داخل الحصص وخارجها ..
وثمة صفات كثيرة ، كانت تلعب دورا هاما في شخصية المدرس ، ونظرة الآخرين لها ، وموقفهم منها .. بدءا من نوع دخانه وسيارته وهندامه وقيافته ، وانتهاء باتزانه وتعففه وقدرته على إقناع الآخرين بإمكانياته العلمية وأهميتها وتميزها ..
وبشكل عام ، كانت جنسية المدرس توحي بانعكاس أولي خاص عن شخصيته ، تدفع الآخرين للتعامل معه بفكرة مسبقة ، سلبا أو إيجابا ، حتى يثبت العكس ..
وبدا واضحا لنا أن كثيرا من زملائنا المصريين ، هم من ساهموا في شطط وميوعة الطلبة واتكاليتهم وتطاولهم وتجرئهم على تجاوز الخطوط السلوكية الحمر ، في علاقاتهم مع بقية أعضاء الهيئة التعليمية ..
وبالتأكيد ، هناك زملاء مصريون كثيرون أيضا ، جديرون بكل الاحترام والتقدير ، وكانوا مثالا يحتذى في كل شيء ..
كما كان هناك زملاء آخرون ، من كل الجنسيات الأخرى ، لا يختلفون أبدا عن أولئك الذين ساهموا في زعزعة وتشويه صورة المدرس ومكانته ، وكان ذلك في نهاية عام 1992 ..

الجمعة ـ 11/10/2012


الصورة المرفقة هي لمشروع جسر ونفق ( الدفاع ) في شارع الشيخ زايد بدبي ، جانب المبنى الذي كنا نسكن فيه . خريف عام 1992 .


الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

دمشق ـ دبي ـ 1


دمشق ـ دبي ـ 1




 إحدى أحدث الطائرات التابعة لشركة طيران الإمارات ، أقلعت بنا من مطار دمشق ، إلى مطار دبي ..
وبأقل من ثلاث ساعات ، وصلنا ..
كانت هذه المرة الأولى التي يخرج فيها من سوريا إلى إحدى دول الخليج ، بعثة تعليمية حكومية ( إعارة ) ، وخاصة ( عقود شخصية ) بعد حرب الخليج ( عاصفة الصحراء ) ، ومؤتمر مدريد للسلام ..
إذ ، بعد احتباس متناغم مع الحصار الغربي على سوريا ، انفرجت أسارير هؤلاء ، ومعها ، انفتحت دول الخليج ، وفتحت أبوابها ـ جزئيا ـ للسوريين ، عرفانا بموقف حكومتهم من غزو الكويت ..
لذا ، كان الحدث تاريخيا للجميع ، ومثّلت الرحلة أملاً ، وبداية حلم طالما تاقت له نفوسنا ، وعملنا من أجله سنوات ، وشاركَنا الأحبة والأهل والأصدقاء غبطتنا ، وحسدَنا عليه كثيرون آخرون ..
ولم يكن الطريق لهذا اليوم 07/09/1992  سهلا ، بل سبقته أحداث ولقاءات ومقابلات وأوراق ثبوتية وسفر وإقامة ووساطات وانتظار وترقب وشائعات ....
لكن مشيئة الله تعالى تحققت في آخر المطاف ، واضعة حدا ونهاية لكل ذلك ، وصعدنا إلى الطائرة وسط مشاعر ملونة مضطربة قلقة ، انتابتنا جميعا ـ مسافرين ومودِّعين ـ قبيل الإقلاع ، خشية أن يُنادَى على أحدٍ منا ، ليُطلبَ منه النزول لسببٍ ما !!
وإذ أغلق باب الطائرة ، وعلا هدير محركاتها ، وبدأت تتدحرج على المدرج ، ضجت الطائرة بصيحات الفرح والصفير والتصفيق ، فيما تعالت شهقات وزفرات من صدور بعض الزميلات ، وهن يلوحن ويكفكفن دموعا لا يعلم أحد كنهها ..
كانت الطائرة من الداخل مثيرة لدهشتنا ، بأناقتها ونظافتها وأنظمة التلفاز والصوت والشاشات التي تعرض خط سير الرحلة مع معلومات ملاحية أخرى ..
وكانت الشاشات التلفازية اللمسية المثبتة أمامنا ، آخر تقليعة في طراز هذه الطائرات ، والكثيرون منا مذهولون بها ، وجاهلون بكيفية التعامل معها ، ومع أجهزة الصوت الخاصة بكل راكب ..
وما إن استقرت الطائرة في الأعالي ، حتى تحررنا من أحزمة الأمان ، وبدأت ألبي استنجاد الآخرين بمساعدتهم في التعامل مع الشاشات ومقابس الصوت ..

لم أكن أعرف أحدا من جميع المسافرين ، سوى معرفة بسيطة بأحدهم ، ولم تسمح الظروف بتعميق العلاقة ، خاصة مع انشغال الجميع بهاجس الوصول إلى " العالم الجديد " من جهة ، وبالظروف التي حتّمت على كل منا ، الانفصال عن أهله وأسرته وعياله إلى " الاغتراب " فيما وراء الصحراء ..
وحين طُلِبَ منا التزام المقاعد وربط أحزمة الأمان ، بدت المدن تحتنا كتلا من الضياء ، ثم ، بدت ألسنة اللهب المتصاعدة من حقول النفط تتراقص كشموع الأعياد ..
ومع هبوط الطائرة في مطار دبي ، هنأنا بعضنا بسلامة الوصول ، وسط بهجة الجميع وهرجهم .. وقيل لنا عبر مكبرات الصوت في الطائرة : إن ثمة حافلات تنتظر " المعارين " منا في الخارج ، لنقلنا إلى مكان إقامتنا بعد إتمام إجراءات الدخول ، واصطحاب الحقائب ، وذلك حسب الإمارة التي نتبع لها ..
وشكلت لحظة الخروج من الطائرة انتقالا قاسيا من أجواء الطائرة الباردة التكييف ، إلى أجواء المطار اللاهبة المشبعة برطوبة خانقة ، تحشرجت لها حناجرنا ، وتثاقلت أنفاسنا بكثافتها وشدة تأثيرها على الصدور الضيقة ..
نقلتنا ثلاث حافلات متوسطة إلى أحد فنادق المدينة ، بعد مشوار لم يدم أكثر من ربع ساعة عن المطار ..
كان كل شيء مرتبا في الفندق بالاسم ، وكنا حوالي الخمسين .. حملنا الأمتعة ، ورافقنا الأدلاء إلى غرفنا بعد أن أبلغونا بالنزول إلى المطعم لتناول العشاء ..
يقع فندق " الإكسيليسور " في وسط المدينة ..
لبثنا فيه خمسة أيام من الضيافة .. خلالها ، كنا نخرج ليلا للتجول في الشوارع المحيطة ، مسكونين بهاجس الاتصال بالأهل ، من الكبائن المنتشرة فيها ، لطمأنتهم عن أحوالنا ..
كما سمحت لنا أوقات الفراغ الطويلة ، والجلسات إلى الموائد المفتوحة بتعرفنا على بعضنا أكثر ، وتمتنت علاقات الزمالة بينا ، واستمعنا من الضيوف الذين زاروا بعض الزملاء إلى كثير من الشائعات حول المدارس التي سنوزع عليها ، والسلفة النقدية والرواتب والتعويضات التي سنتقاضاها .. كما أخذونا بالتتابع إلى أحد المستشفيات القريبة لإتمام الفحوصات الطبية التي تمهد للحصول على الإقامة اللازمة ..
وحصلت أنا من أحد الزملاء معنا ـ بعد أن سمعته يردد اسمه ـ على رقم هاتف الصديق الموجه الاختصاصي في دبي " عدنان كزارة " ، فرحب بوجودي ، وزارني في الفندق ، واصطحبني في جولة في المدينة ، ودعاني إلى عشاء في أحد المطاعم القريبة ..
كما اتصلت بالأخ " أبي سعيد " في الشارقة ، فزارني أيضا ، واصطحبني إلى أجواء مطعم شامي قريب ، وأكد علي بمودته المعهودة ، أن نبقى على تواصل لأي طارئ أحتاجه ..  
وفي اليوم الخامس ، حملونا إلى " منطقة دبي التعليمية " لاستلام " الإجراء المالي " الذي هو بمثابة قرار التعيين في العمل ، ونُقد كل منا بسلفة مالية قدرها خمسة آلاف درهم ، وأبلغونا باسم المدرسة التي يجب الالتحاق بها صباح الغد ..
على أن نغادر الفندق مساء اليوم ، لانتهاء أيام الضيافة ..
كثيرون منا رتبوا أمور إقامتهم خارج الفندق ، بمشاركة زملاء لهم .. وآخرون اتفقوا على استئجار سكن مشترك ، وغادر البعض مع معارف لهم ، وبقيت أنا و" مفيد " وحيدين من الذكور في الفندق ، كما بقيت بعض الزميلات ، حيث عُرض عليهن استمرار الإقامة بأجر مخفض ، فيما رفضت الإدارة قبول إقامتنا ـ أنا ومفيد ـ بنفس الأجر ، حسب ما أفادنا " عراب العرض " السائق السوري لإحدى حافلات الوزارة ، وكان الفارق كبيرا جدا بين الأجرين !!..
وفي أجواء الحيرة والاضطراب والانزعاج من هذا التمييز ، وكمساعدة لنا ، عَرَض " العراب " علينا أن ينقلنا إلى " بيت الشباب " بدبي ، لنمضي فيه الليلة ريثما نتدبر أمرنا ..
كان بيت الشباب في طرف المدينة القريب من الشارقة ، في محيط ناد رياضي ، حيث وضعت " كرفانات " كبيرة خشبية مسبقة الصنع ، قادنا الموظف المسؤول إلى إحداها ..
كان الضوء خافتا ، وقد استلقى فيها عدد كثير من النائمين على الأرض أو على فرش اسفنجية بالية ، يمتلئ المكان بالرمل وبروائح مقززة ، وتهدر فيه أصوات الشخير والمكيفات التي فشلت في تعديل الحرارة للحد المقبول ..
بدا انتقالنا من أجواء الفندق إلى هذا الجو مقيتا ومهينا ، فرفضتُ الإقامة ، وأيدني مفيد على مضض ، حيث  " تجاوزت الساعة منتصف الليل ، وما هي إلا ساعات قليلة لا تستحق مزيدا من المكابرة " .. ومع ذلك ، عاد معي إلى الفندق ، فقيل لنا : ليس لدينا غرف شاغرة !!.. وفشلنا في تأمين غرفة في فنادق أخرى ، ولم يبق أمامنا سوى القبول بالاستلقاء ـ في السويعات المتبقية ـ في كرفانات بيت الشباب ..
وبعد أن نقدْنا " المسؤول الهندي " أجر الليلة ، اختار لنا من أفضل الموجود عنده : فراشين ووسادتين وغطاءين ، واندسسنا بين الجَمْع ..
وكانت ليلة " تاريخية " في المدينة الصاخبة ..
أيقظني مفيد في السادسة ، ودلني على الحمّام ..
وبسرعة ، هربنا إلى الشارع .. ركبنا سيارة أجرة وطلبت من السائق " الهندي " التوجه إلى عنوان المدرسة التي سنداوم فيها معا .. كانت الشوارع مكتظة بالسيارات والحافلات المدرسية البرتقالية اللون ..
أمام باب المدرسة ، تأكدنا من اسمها المكتوب على يافطة كبيرة " مدرسة السعيدية الإعدادية للبنين " ، فتنهد مفيد وسألني : ألست جائعا ؟
تناولنا فطائر " لم نذق كطعمها من قبل " وعصيرا معلبا ، وعدنا إلى المدرسة ..
استقبلنا المدير " الهاشمي " في مكتبه ببشاشة ، واستدعى وكيله الذي أعطانا جدولا بالحصص ، وسار معنا إلى الفصول ..
خلال الدوام ، استأذنا المدير ـ أنا ومفيد ـ لاستخدام هاتف مكتبه ، فرحب ، وقال بأريحية : لا بأس .. أهلا وسهلا ..
اتصلت بأبي سعيد طالبا تأمين مسكن لي في الشارقة ، فوعد بكل مساعدة ، واتفقنا أن أوافيه في مكتبه بعد الدوام ..
بينما استعان مفيد بالمدير للحصول على رقم هاتف إحدى المدارس التي ذهب إليها زميله " محي الدين " ، فأجرى اتصالا به ، واتفق أن يشاركه مسكنهم بدبي ، وكتب العنوان ..
ثم استدعى المدير الزميل " محمد شريف " الذي يقطن في الشارقة ، فرحب أن يوصلني معه إلى مكتب أبي سعيد ..
محمد شريف ، سليل عائلة مصرية عريقة ، كان جده " باشا " حاكما لإقليم السودان أيام الانتداب البريطاني ، وقبل انفصاله عن مصر ..
وهو مهندس زراعي يدرّس مادة العلوم .. بيته في شارع الوحدة في الشارقة ، وزوجته مدرّسة أيضا فيها ..
لطيف جدا وطيب جدا ومضياف جدا .. وكمعظم المصريين ، سريع البديهة والنكتة ، تنم التماعة عينيه من خلف نظارته الطبية السميكة عن ذكاء فطري ، ولا تغيب البسمة والضحكة عن محياه ..
وفي الطريق المكتظ إلى الشارقة ، أعطاني رقم هاتف بيته ، ودلني عليه حين مرورنا من أمامه ، واتفقنا أن أتصل به لأعطيه عنوان إقامتي الحالي ، ليأخذني معه إلى المدرسة في دبي ..
استقبلني أبو سعيد بمودة وحُنوٍّ ، وخرجنا معا .. تناولنا الغداء ، وذهبنا إلى بيته ، لنقيّل في وقتٍ تكون فيه معظم فعاليات المدينة " مقيّلة " ، على أن نسعى في البحث عن مسكن بعد العصر ..
استعان أبو سعيد بأحد معارفه ، فذهبت معه في جولة على بعض المكاتب العقارية ، وطالت الجولة ، ولم نعثر على ما يناسب ..
استضافني أبو سعيد في بيته في شارع المطار القديم ، واستمر ذهابي إلى الدوام والعودة منه مع الزميل محمد شريف ، واستمر البحث عن شقة مناسبة ..
بذل مدير المدرسة الهاشمي جهدا بالبحث عن شقة في دبي ، فخرجنا معا إلى مكاتب عقارية قريبة ، ولم نحصل سوى على وعود ، لندرة الشقق التي تناسب أوضاعي من حيث القرب من المدرسة ومبلغ الإيجار وعدد الغرف ....
وقد نصحني الزملاء بالاستئجار في الشارقة ، لعدد من الميزات التي تجعل منها أكثر مناسبة للسكن العائلي في بيئة " عروبية " تفتقدها دبي ، المدينة التي لا شيء فيها يجعلك تشعر أنك في بلد عربي ، أو على أرض عربية ، لغلبة الطابع الأجنبي عليها .. 
وبالفعل ، أثمرت رحلة البحث المتواصل في الشارقة ، ووجدت شقة في مبنى " مركز بهمن " في شارع الاستقلال ، فدفعت ثلاثة آلاف درهم كسلفة ، على أن أعطيه ثلاثة شيكات بالمبلغ المتبقي من الإيجار ، واستلمت الشقة فارغة ، وبدون كهرباء ..
نظفت مكانا أستلقي فيه ، بعدها خرجت أسكت جوعي في مطعم قريب ..
كنت وحيدا بعد انتهائي من الطعام ، حين مر من أمام الزجاج " زياد خليفة " ، فتوقف حين لمحني فجأة ، وأومأت له بالدخول .. تعانقنا ، واستخبر مني عن آخر أحوالي وظروفي .. ودلني على شقته القريبة من مكاننا ، في مبنى القاسمية للشقق المفروشة ، ودعاني لمرافقته إليها لارتباطه بموعد هناك ..
زياد ، كان طالبي في معهد إعداد المعلمين بحلب عام 1981 .. وكان هذا لقاءنا الأول بعد أكثر من عشرة أعوام ..
وحين عرف بعدم وجود الكهرباء في شقتي ، لم يتوان في الإصرار على استضافتي حتى توصيل الكهرباء ..

وفي الوقائع المرافقة لاستئجار الشقة ، أفرحني " الإنجاز " الهام ، فاتصلت بالعائلة أبشرهم بقرب احتضانهم بها ، وأرسلت لهم بقائمة بالأوراق والوثائق اللازمة للحصول على تأشيرات دخول لهم ، والثبوتيات اللازمة لتسجيل الأبناء في المدارس ، وأن المسألة يجب أن تتم سريعا قبيل مرور وقت طويل على بداية العام الدراسي هنا ..
لكن .. وُئدَت كل تلك الأوهام قبل أن تزهر ، لاستحالة الحصول على التيار الكهربائي فبل إجراءات كثيرة ، وأهمها :
أنه لكي يتم وصل التيار ، لا بد من أن يكون عقد الإيجار ناجزا ومصدقا من البلدية ..
وأنه لا بد لهذا من أن تكون " الإقامة " ملصقة على جواز السفر ..
ولن يتم لصق الإقامة على جواز السفر الموجود في عهدة الوزارة ، قبل شهر على الأقل ..
ولن تصدر الوزارة تذاكر سفر لمن يرغب باستقدام عائلته إلا بعد صدورها ، ولن تصرف لنا الرواتب قبل شهر آخر ..
وفوق هذا ، لا بد من تأمين مبلغ كبير يفوق ثلاث مرات السلفة النقدية التي استلمتها ، وذلك لشراء مكيفات وأثاث وأدوات منزلية ونفقات أخرى كثيرة ، تفي بحاجة أسرة من خمسة أفراد ..

وفي هكذا بلد ، وهكذا طقس ، تستحيل الحياة في شقة بدون تكييف وثلاجة .. وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون التيار الكهربائي .. فصار الإحباط سيد الموقف بعد كل هذه المعيقات المستحيلة ، وصار لا بد من التخلي عن استئجار البيت ، واسترداد السلفة التي دفعتها ، لألجأ إلى السكن المشترك مع مفيد والآخرين في شقتهم الكائنة في دبي ..
وبعد لأيٍ ، وتدخلٍ من أبي سعيد لدى مالك البناية ، أعاد لي مندوبُه المبلغ ، وسعيت هاربا من كل تلك الدوائر المغلقة ..
ثم ، وبالاتفاق مع مفيد على تقاسم الغرفة الثانية من شقتهم ، اشتريت ( سريرين وملحقاتهما ، وتلفازا ومكيفا وطاولة وعددا من الكراسي وبعض الحاجيات الضرورية ) من معرض مجاور للأثاث المنزلي ، فوجئت بصاحبه " عادل رجب باشا " ( الذي عرفته موظفا في مركز هاتف الأنصاري ، ثم شاهدته بعد فترة ضابط شرطة في حلب ) ، فأخبرني أنه ترك عمله ليرافق زوجته المدرّسة في الشارقة ..
دبي :
الطابق الرابع عشر من بناية تويوتا في دوار الدفاع ، شقة مفروشة بموكيت رمادي داكن ، وتتألف من صالة فسيحة ، وغرفتين وتوابعها ، فأعيد توزيع المكان : الصالة للزميلين عادل حسن ومحمود ..... والغرفة الصغيرة المقابلة للحمام ، لـ بكري سلام عليك ومحي الدين مينو ، ووضعنا أمتعتنا أنا ومفيد في الغرفة الثانية الكبيرة المطلة على دوار الدفاع ، عبر شرفة واسعة ، فصارت للنوم والطعام والسهرة واستقبال الضيوف ...
لم يكن في الشقة قبل وصولي سوى بعض لوازم تحضير الطعام ، وأدوات كهربائية مستعملة ( ثلاجة وغسالة وفرن ) .. وفرش قطنية للنوم رقيقة جدا ، وبطانيات من النوع الرديء جدا ..
ينامون على الأرض ، ويكوون ملابسهم بالنوم فوقها وهي تحت الفراش ، وبلا تكييف ، ويفرشون أوراق الصحف لتناول الطعام ، وينظفون الموكيت بأيديهم من الوبر والشعر المتناثر من الفرش والبطانيات ..
كان محمود وعادل من عامودا في محافظة الحسكة ، وبكري من ريف إدلب ، ومفيد ومحي الدين من حمص ..
محمود وعادل ، شديدا التأثر بالبرودة ، فلا يرغبان بالتكييف البارد مطلقا .. أما محي الدين ، فكان كثيرا ما يفترش الأرض في غرفتنا طلبا للبرودة ، بينما لم يفعل بكري ذلك إلا لماما ..
وكان من الطبيعي أن تكون ثمة فوارق واختلافات بيننا ، حول كثير من العادات المعاشية والتقاليد والانتماءات ، وأساليب الترتيب والنظافة والقيافة ، وأنواع الطعام ومكوناته .....
وإضافة إلى الأثاث الذي امتلأت به غرفتنا ، طلبت ـ فور حصولي على الإقامة ـ توصيل خط هاتفي ، فوفر علينا جميعا ما كنا نعاني منه أثناء الاتصال بسوريا ..
وبدت حياتنا أكثر هدوءا وتنظيما واستقرارا مع اكتشاف المعالم المحيطة في المدينة عموما والمناطق المجاورة بشكل خاص ، وصار سهلا ، الوصول إلى المدرسة والعودة منها ، لنتبادل ـ على مائدة الغداء أو في السهرة ـ القصص الغريبة العجيبة عن سير يومنا الدراسي ، والعلاقة مع طلابنا ، والمواقف السخيفة والمشاهد الفاجعة التي لم نرها سابقا ، ولم نعتد عليها ، ولا تشبه ما كنا نعاني منه مع طلابنا في بلدنا ..

26/09/2012
  
الصورة المرفقة هي لفندق ( الإكسيليسيور ) بدبي عام 1992 ، وقد أعيد ترميمه فيما بعد ، وأطلق عليه اسم آخر .

الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

في نهاية المطاف


في نهاية المطاف

في نهاية المطاف :
هو حصار قتل ، وفتنة طائفية بامتياز ..
إنه حصار فئة كثيرة لفئة قليلة ، استهدفوا فيه أكثر من خمسين ألف مواطن ، كنا قبل بضعة شهور مضت ، نتعايش معا بأمان ومحبة وطمأنينة وسلام ..
إنه حصار يستهدفهم في وجودهم ، كيانا وتعايشا ، أرضا وحجرا وبشرا ..
إنه يستهدف كل أنواع وأشكال الغذاء ، من الطحين ورغيف الخبز إلى ربطة البقدونس وحبة العنب ، إلى المحروقات والغاز المنزلي والأدوات الضرورية الأخرى لمواجهة أشهر الشتاء القادمة ..
كما يستهدف كل أنواع الدواء والعلاج ، ومراجعة المستشفيات للأمراض السارية والمستعصية ، وللولادات المتعثرة ، وللأطفال والكبار ، والمسنين المحتاجين لأدوية وعلاجات خاصة لا توجد غير في مستشفيات المدينة ..
وقد نتج عنه كثير من الحالات الصعبة إنسانيا ، إضافة إلى عدد من الوفيات التي حدثت كنتيجة حتمية طبيعية له ..
ومن لم يُقتَلْ بالرصاص ، أو من التعذيب بعد الخطف ، مات بالحصار ..
إنه شكل من أشكال القتل الجماعي في أبشع صوره ، تمارسه مجموعات ، امتهنت الخطف والسمسرة بالفدية وبأرواح المواطنين الأبرياء وعواطفهم وإنسانيتهم وكراماتهم ، كما انتهجت القتل والترويع وقطع الأوصال والطرق والأرزاق والعمل والغذاء والدواء والماء والكهرباء .. وحتى الهواء ..
جريرتهم وجريمتهم أنهم خُلقوا من هذه الأرض ، وفوقها ، وعاشوا من ترابها وخيراتها ، وتقاسموا مع جميع أهليها : الحلوة والمرة وحبة الدواء وكسرة الخبز وبئر الماء ومقعد الدراسة وكل مراسم الأفراح والأتراح ، في السراء والضراء ..
فصدق في فِعلتهم قول الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند

إن أولئك المنفِّذين ، كرّسوا حصارهم لبقعة سكانية ملونة بلون سياسي لا " يروق " لهم ، وهو في نفس الوقت ، لجزء من طائفة لا تنتمي لأيديولوجيتهم الدينية أيضا ، تحقيقا لإرادتهم في كسر إرادة من يخالفهم الرأي أو العقيدة ..
ويسمونها " حرية " .. ويذبحون مع التكبير والتهليل ..

ومن وراء الحصار ، وإمعانا به ، عقد هؤلاء المنفذون " الثورجيون " تحالفاتٍ مع بعض الجيران ، تعاكس السيرورة التاريخية لأهالي المنطقة وسكانها بعد طول تعايش ووئام .. وهم بذلك ، يزيدون في هواجس المحاصَرين ومخاوفهم على مستقبل أمنهم وحياتهم ووجودهم ، من جهة ، ويوضحون لهم ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ صورة الحياة المقبلة لتكوين المنطقة ، ويكرسون صورتها المستقبلية الإلغائية المرعبة ، من جهة أخرى ..
إذن ، هو حصار مزدوج ، أرادوه بين فكي كماشة ، عن سابق إرادة وتصور وتصميم ، وتم لهم ذلك ، حين حشروا المنطقة في طريق ذي اتجاه واحد وحصري لا سواه ، وأجبروها على الاستسلام لمقولة طارق بن زياد : ( العدو من أمامكم والبحر من ورائكم ، فأين المفر ؟! ) ..  
بهذا ، تمارس بعض الأحزاب الكردية سلوكا خطيرا ، يكشف عن قصور في الرؤيا للحصول على منافع مصلحية ضيقة جدا ، هي أدنى وأقل كثيرا من التوجه النفعي الحقيقي ، مما سيولد انعكاسات سيئة على المنطقة وتعايشها السابق الطويل ، واللاحق للحاضر الصعب القاسي ، وللمستقبل القاتم أيضا .
وما تتعلل به تلك الأحزاب من " حياد " ـ سواء كانت تدري أو لا تدري ـ ما هو في حقيقة المسألة إلا إمعان جائر في تشديد الحصار لصالح العدو المشترك ( تركيا ) ..
فالعصابات المسلحة هي ـ في المحصلة الواقعية على الأرض ـ أدوات تركية ، بينما ، المعروف والشائع ، أن الأحزاب الكردية تعادي الأتراك ، فكيف لها أن تسير في نهجهم بما يخدم مصالح هؤلاء الأعداء ..
وكيف تتوافق تلك التنظيمات مع عملاء الأتراك ضد المنطقة ، بذريعة " الحياد " الوهمية ؟!
وأي " حياد " هذا ؟!
وما هو الثمن ؟!
وما هي النتائج المترتبة ؟!
ولماذا تناست أو تجاهلت تلك التنظيمات أن صديق عدوها لا يمكن أن يكون صديقها ؟!
إن حصول بعض التجاوزات التكتيكية من هنا وهناك ، لا يجب أن يحرف دفة العداوة التاريخية الإستراتيجية وبوصلتها عن مسارها الصحيح ، لصالح أهداف مؤقتة مرسومة بقليل من الحنكة وكثير من السطحية ..
ومن غير المؤمل أن يقف الصديق التاريخي مع العدو التاريخي ضد الصديق التاريخي ، لمجرد مقولة " الحياد " غير الصحيحة في أساسها ولا في توقيتها ولا في نتائجها ولا في مسوغاتها الشكلية أو الموضوعية ..
فهل وَعَتْ وأدركت تلك التنظيمات نتائجَ تحالفاتها على حاضرها ومستقبلها ؟!
وكذلك على علاقتها ببقية التنظيمات الكردية التي ما تزال تناصب الحكومة التركية وحلفاءَها عداءَها التاريخي ؟!
خاصة ، في ظل استمرار النهج التركي العدواني ضدها ، واستمرار ما تشنه الحكومة التركية من حرب شعواء عليهم ؟!

إن قراءة متأنية عقلية واعية لجغرافيا المنطقة سياسيا وبشريا وإثنيا وعرقيا ، تحتم على الجميع تدارك التصرفات المتهورة لخروج أبناء المنطقة الحقيقيين بأقل الخسائر ، وعلى كافة الصعد ، تفويتا لمخططات المتآمرين العابثين بأمن الوطن عموما ومنطقتنا خصوصا ..
إن قرونا من الوئام والسلام والعيش المشترك ، تستحق منا أن نكثف جهودنا ، لإيصال المركب الذي يجمعنا ويحملنا جميعا ، إلى شاطئ الأمان ، قبل أن يُغرِقنا الآخرون بمخاضاتٍ وزواريبَ لا قِبَلَ لأحدٍ منا بعبورها سالما آمنا ..
إن علاقات كثيرة ، اجتماعية وعائلية وفكرية ، ربطت ـ وما تزال ـ بين أبناء المنطقة عبر تاريخها الطويل المشترك ، جديرة أن تمنحنا القدرة على تجاوز الصغائر والتكتيكات الضيقة ، من أجل خير ومستقبل أبنائنا وأسرنا وروابطنا الأخوية المتينة التي يجب أن تكون فوق كل المحن والصعاب ، رغم كل القوى المتربصة بنا شرًّا ..

إن التسامح يزيل الضغائن ، ويحقن الدماء ، ويصفّي النفوس ، ويبيّض القلوب .. وأنا أدعو الجميع للإيمان به وانتهاجه سبيلا للخلاص ، ونهجا للأمان ..
كما أن الحوار الهادئ المتزن ، هو السبيل الأوحد الذي يُوصِل كل ذي حق لحقه ، وهو الطريق الذي يجب أن نسعى إليه جميعا لنجنب منطقتنا وأهالينا كلّ ما يريده الخصوم قبل الأعداء ..
وكلنا نحتاج ذلك ، كحاجتنا إلى الهواء المشترك والعيش المشترك والحاضر المشرك والمستقبل المشترك ..

الإثنين ـ 17/09/2012