ومضى نهار آخر
لم تكن المتاعب والمصاعب والقلق أقل في الفترة
التي سبقت ـ منذ أن فتح لنا باب الولوج إلى هذا العالم ـ مما نحن فيه الآن ، على
عكس ما كنا ننتظر ، خاصة أننا محسودون على إقامتنا في دبي ، حيث يحلم الكثيرون
بالعيش فيها ، ويتنافسون على اغتنام فرصها ، واستغلال ظروف انفتاحها ، وسلاسة
قوانينها ، وجودة وتنوع خدماتها ، ولطف وانضباط شرطتها ، وأريحية التكيف فيها مع
كل ما يتمنى المرء ويشتهي ..
بل ، تنوعت
المتاعب أكثر ، وازداد القلق أضعافا ، وزاد عليهما جوٌّ من الوحشة فوق الغربة ،
وواجهتنا عقبات ومشاكل لم نكن نحسب لها حسابا ، ولم تكن في وارد يومياتنا ، نظرا
لاختلاف الخطوط المجتمعية العامة والخاصة ، والتوجهات والعلاقات المسلكية التربوية
، وحيثياتها ونظامها ومندرجاتها والعلاقات التراتبية من القاعدة إلى القمة ..
كل ذلك في
بيئة اقتصادية مدهشة في أساليب التسويق والعرض وتقديم الخدمات ، وبيئة اجتماعية متباينة
الدرجات والمواقع والحقوق ، شديدة التنوع والخصوصية ، وذات فرادة وهمية مصطنعة
قائمة على تميز خادع هزيل ..
إلا أن النظام
العام مصون بقبضة فولاذية خفية ، مسيطرة مهيمنة موجودة في كل مكان ، تحس بها دون أن
تراها أو تلمسها .. علاوة على جودة وتنظيم الخدمات العامة والخاصة ..
وكان باديا
للعيان ، أن ثمة مشروعا تطويريا ضخما قيد التنفيذ ، بدأت تتضح أبعاده وملامحه ، من
خلال مواقع تحديث وتطوير البنى التحتية ، ومن خلال التكاثر السريع للروافع البرجية
في سماء المدينة ومحيطها كأنها أذرع سرطانية بهلوانية لا تهدأ على مدار الساعة ،
في سباق محموم مع الزمن ، ما لبثت أن حولت الصحارى المحيطة إلى مدن سكنية وتجارية وصناعية
ورياضية ومطارات ومنشآت ومناطق حرة وجزر صناعية ، تربط فيما بينها طرق سريعة وجسور
وأنفاق بمواصفات أمان عالمية .. مما استوجب استقدام أيد عاملة وخبرات فنية بأعداد
كبيرة جدا ، كان لها الفضل الأعظم في بناء كل الإنجازات التي تتحقق تباعا ، فنتجت
عنها أزمات في السكن البسيط والمتوسط ، واختناقات وزحام شديد في الدوائر المتخصصة
باستخراج تأشيرات الإقامة اللازمة لها ، وفي المواصلات والأماكن العامة ، وصارت
الشوارع كلها أسواقا تغص متاجرها بمختلف البضائع والمستلزمات ، وبألوان وأشكال من
البشر من أصقاع الأرض ..
وانتشرت ظاهرة
" المعارض ومهرجانات التسوق "
في المراكز التجارية الكبرى والأسواق المتخصصة ، التي عمت كل الأرجاء ، وتعاظمت في
قلب المدينة أيضا حركة التوسع العمراني أفقيا وعموديا ، ورافقتها على التوازي
مشاريع توسيع الطرق والجسور والشبكات والمرافق العامة ..
في ظل تلك
المعمعة ، كنا ـ في جو العمل ـ نشعر أننا نعيش وسط حقل ألغام ، غير آمنين ولا
مطمئنين على حاضرنا ومستقبل عملنا ، حتى صارت الجملة السائدة لنا عقب انتهاء
الدوام اليومي " على خير " :
ومضى نهار آخر
.. " مقرونة بزفرة طويلة " ..
ذلك ، بسبب
الحدود والضوابط الحاكمة بين المدرس والطالب ، من جهة ، ومع المدراء والموجهين
المشرفين على العملية التربوية ، من جهة ثانية ، نتيجة الإجراءات القانونية
والتربوية والتنظيمية التي تحكم العلاقة بين الأضلاع الثلاثة للعملية التربوية :
المعلم والطالب و( ولي أمره ) والإدارة ،
والتي تختلف اختلافا جذريا عما هو عليه الحال في بلدنا ..
فقد كان
الطلاب المواطنون حصرا ، شديدي البلادة والاتكالية والكسل واللامبالاة وعدم
الإحساس بالمسؤولية ، ممزوجا بقلة الاحترام وحب الفوضى وعدم الالتزام والتأفف
والتهرب من الواجبات والدروس ، لأنهم " ليسوا بحاجة للتعلم ماداموا قادرين
على استخدام من يقوم بأعمالهم في كل ما يحتاجون " ..
يضاف إلى ذلك شيء من العنصرية التي تشرّبوها في
بيوتهم من خلال تعاملهم مع جنسيات العاملين فيها ، كالخادمات والمربيات والسائقين ، حيث ينظرون إليهم بوضاعة
وامتهان ، وأن مصيرهم مرهون بحسن تصرفهم مع " أرباب نعمتهم " ، وبانصياعهم
لهم وتنفيذ ما يطلب منهم بلا تردد ولا تذمر ولا تلكؤ ولا نقصان ، فصاروا يعتقدون
أن كل من جاء لبلدهم ، إنما هو عامل أجير لديهم ، " يسلبهم " أموالهم
لقاء عمل " بسيط " من " واجبه " أن يقوم به ، وعليه تقديم
" خدمته " لهم صاغرا راضخا ، ومن فم أبكم ، كما يفعل كثير من أبناء
الجنسيات الوافدة ..
وبالنتيجة : يتساوى
أمامهم كل الوافدين ، فلا يختلف عندهم المدرس " الوافد " عن هؤلاء ..
وكان التماس
الأول والمبكر والمباشر لي ، مع ولي أمر أحد الطلاب :
انتحى بي وكيل
المدرسة ( اليمني الأصل ) جانبا عند انصرافنا ليسألني باهتمام : هل ضربت أحدا من
طلابك اليوم ؟
نفيت له
مستغربا سؤاله .. فقال : إن ولي أمر أحد الطلاب يريد مقابلتك .. وأشار بيده إلى
غرفته ..
حييت الرجل ،
ومددت له يدي مسلما ، فترك عصاه من يمناه المرتجفة المعروقة ، ومدّها دون أن يعتدل
من شبه استلقائه على الكرسي أمام الطاولة ، متجها إلى الباب ..
بدا طاعنا في
السن ذا لحية طويلة مرتجفة أيضا ، وبالكاد خرجت من بين بقايا أسنانه بضع كلمات لم
أستطع التقاط معانيها ، نظرت إلى الوكيل مستفهما ، فأعادها :
يقول : إنك
ضربت ابنه على رقبته في طابور الصباح ..
جلست قبالته
محاولا أن أتذكر أحداث الطابور ، فلم أعثر على ما يجعلني أضرب طالبا .. قلت للوكيل
: أنا لا أذكر ، لعلي أعرف الحدث إذا رأيت الطالب .. أين هو ؟
نهض الوكيل
خارج الغرفة ، وعاد معه أصغر طلابي حجما .. سألته : كيف ضربتك ؟ ولماذا ؟ قال :
وضعتَ يدك على قفا رأسي وشددت شعري .. ( وكنت فعلت ذلك لشفقتي عليه ممن يسخرون من
ضآلة حجمه ) ..
شرحت ذلك
للوكيل ، ليقيني أن أباه لن يفهم قصدي .. فأرعد الأب وأزبد بعد أن " ترجم
" له الوكيل ذلك بطريقته ، فراح يهددني ويتوعدني ملوحا بعصاه ، وبأنه سيشتكي
حالا للوزارة لـ " تفنيشي " .. أي : ( لإنهاء عملي ) .. وهي لفظة
إنجليزية " كابوسية مرعبة شائعة ، تقض مضاجع الوافدين عموما " ..
ووسط دهشتي من
حركاته وأقواله وهو يهتز فوق كرسيه ، قلت له واقفا : اسمع يا هذا : كنت أعتقد أننا
جئنا هنا لنعلم ونربي أبناءكم ، لكني أرى أن آباءهم أولى بالتربية منهم ..
فوضع أحدهم
يده على فمي من خلفي .. وهو يرجوني ألا أكمل ، كان ذاك زميلنا " نبيل زيدان
" .. ثم أخذني بين ذراعيه باتجاه الباب الذي تجمع حوله عدد من الزملاء
منتظرين نهاية المسرحية .. تأبط نبيل ذراعي متجها إلى غرفة المدير المجاورة ( شغرت
بعد انتقال المدير وعدم تكليف بديل ) ، وتبعنا مفيد ومحمد شريف الذي توعدني ضاحكا
: لم تر شيئا من وقاحتهم بعد .. لا بد أنك ستعتاد عليهم ..
ثم جاء الوكيل
راغبا أن نرافقه بسيارته ليوصلني أنا ومفيد إلى البيت ..
في الطريق ،
قلل الوكيل من أهمية كلام هذا " المطرزي الشيبة " .. وحين تساءلت عن
معنى كلمة " مطرزي " ، قال : تعني أنه من أتباع الشيوخ وملازميهم للخدمة
ككلاب الصيد " ..
وتحدث ناصحا
لنا من خلال تجربته في العمل طويلا في هذا البلد ، حيث اختلفت حال العلاقة بين
المدرس وطلابه في السنوات الأخيرة .. وما كان جائزا للمعلم قبل سنوات صار محرما
عليه ، بعد أن تعاظم شأن الدولة وصارت مقصدا للكثيرين .. وأن الدولة تبني المدارس
والمنشآت وتزودها بكل ما يلزم ، وتستقدم المدرسين وتقدم كثيرا من المغريات المالية
للطلاب وأولياء أمورهم ..
لكن ـ حسب
رأيه ـ ليس ليتعلم الطلاب ، وليس المطلوب أن يتعلموا ، إنما كي تسد الدولة الذرائع
، وكي لا تُتهَم بالتقصير تجاه مواطنيها ..
وأضاف : أنا
اعرف أن كلامي خطير وجريء جدا ، وستكون منعكساته وخيمة علي إذا أشيع عن لساني ..
ولن تسمعوه من أحد غيري ..
لكن أقول لكما
هذا الكلام لأني أفهم نفسية المواطن السوري المختلفة عن غيره ، وأعرف ثقل ووطأة استفزازاتٍ
على هذه الشاكلة ، ستواجهكم جميعا ، كما واجهت غيركم ..
وفي البيت ،
حين رويت ما حدث للزملاء ، ضحك محمد مينو ، وقال : اسمع هذه : أحد المدرسين
المناوبين ضبط حالة لواطة في حمامات المدرسة ، فأبلغ المدير الذي استدعى ولي أمر المفعول
به .. فجاءت أمه صارخة في وجه المدير : وايش بلاك تستدعيني ؟ أي : ( لماذا تستدعينني
) ؟
فأخبرها
المدير بالحادثة ، فعادت تصرخ :
وَيْ وَيْ وَيْ
.. كنت أظنه يتتن ( يدخن ) !!! هو خنيث وأبوه خنيث ويده ( جده ) خنيث .. هو يتخنث
الحين ( الآن ) وباجر ( غدا ) يخنث غيره !!
ثم نهضت خارجة
من مكتب المدير ، وهي تردد مستنكرة ساخرة : كنت أظنه يتتن .. كنت أظنه يتتن ...
طبعا ، لم تكن
هذه هي الحوادث والنوادر الوحيدة .. بل كانت ـ لكثرتها وتنوعها وغرابتها ـ كالأمثال السائرة على كل لسان ، ولا يكاد يمر
يوم دون مشكلة أو حادثة واحدة على الأقل ، مع كل واحد منا .. والمحظوظ ، هو من لا
تتطور مشكلته لتصل مفاعيلها إلى ولي الأمر أو الإدارة ..
وكان أسوأ
القلق الذي ينتابنا ، حين تقع المشكلة يوم الخميس ، فيمر يوم الجمعة طويلا ، ثقيل
الوطاة ، انتظارا لما قد يسفر عنه يوم السبت من تفاعلات مشكلة يوم الخميس ..
فيما بعد ،
صارت عطلة نهاية الأسبوع يومين ، فتنامى هذا القلق سوءا ، واتسعت دوائره ، حتى صار
مصدر نكد للأسرة ، يمتد طيلة يومي العطلة ..
ولم تكن هذه
الحوادث محصورة بين المدرس والطالب ، فقد تحدث لنا عدد من الموجهين الاختصاصيين
الذين زارونا في البيت ، عن كثير من معاناتهم مع الطلاب أثناء حضورهم الحصص ،
كنتيجة حتمية لضعف تأثير الإدارة في قدرتها على الضبط العام ، أو لضعف قدرة المدرس
في حصته على فرض الانضباط في حضرة الموجه على الأقل ..
ولعل الوجه
الآخر من المشكلة هذه ، يكمن في طريقة تعامل كل مدرس مع البيئة المدرسية ، وفي قوة
شخصيته ، وقدرته على اكتساب احترام طلابه داخل الحصص وخارجها ..
وثمة صفات
كثيرة ، كانت تلعب دورا هاما في شخصية المدرس ، ونظرة الآخرين لها ، وموقفهم منها
.. بدءا من نوع دخانه وسيارته وهندامه وقيافته ، وانتهاء باتزانه وتعففه وقدرته
على إقناع الآخرين بإمكانياته العلمية وأهميتها وتميزها ..
وبشكل عام ،
كانت جنسية المدرس توحي بانعكاس أولي خاص عن شخصيته ، تدفع الآخرين للتعامل معه
بفكرة مسبقة ، سلبا أو إيجابا ، حتى يثبت العكس ..
وبدا واضحا
لنا أن كثيرا من زملائنا المصريين ، هم من ساهموا في شطط وميوعة الطلبة واتكاليتهم
وتطاولهم وتجرئهم على تجاوز الخطوط السلوكية الحمر ، في علاقاتهم مع بقية أعضاء
الهيئة التعليمية ..
وبالتأكيد ، هناك
زملاء مصريون كثيرون أيضا ، جديرون بكل الاحترام والتقدير ، وكانوا مثالا يحتذى في
كل شيء ..
كما كان هناك
زملاء آخرون ، من كل الجنسيات الأخرى ، لا يختلفون أبدا عن أولئك الذين ساهموا في
زعزعة وتشويه صورة المدرس ومكانته ، وكان ذلك في نهاية عام 1992 ..
الجمعة ـ
11/10/2012
الصورة المرفقة هي لمشروع
جسر ونفق ( الدفاع ) في شارع الشيخ زايد بدبي ، جانب المبنى الذي كنا نسكن فيه .
خريف عام 1992 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق