الأحد، 21 أكتوبر 2012

دمشق ـ دبي ـ 3 ـ حلب ـ اللقاء بعد الفطام




 كانت الهواتف والرسائل البريدية ، وسيلتي التواصل الوحيدتين مع الأهل والأصدقاء في سوريا .. فالشبكة الهاتفية ليست منجزة ولا كافية لتلقي اتصالاتنا في معظم البيوت والأماكن .. والاتصال صعب ، وإن حصل ، فإن جودة الصوت رديئة ، ولا يمكن لهذا الاتصال أن يتحمل أو يتسع لفيض العواطف والأحاسيس النابضة ، بعد شهور من المعاناة والغربة ..
لذا ، كانت الرسائل البريدية خير عون ومتسع ، وقد أرسلت أعدادا منها للأصدقاء والأهل ، وتلقيت كثيرا أيضا ، بما فيها بطاقات التهنئة بالمناسبات المختلفة ..

وفي مسكننا المشترك ، كان الأخ مفيد الأكثر قربا مني ، بهدوئه وواقعيته ، كوننا نتقاسم الغرفة ، ونتشارك الطريق إلى المدرسة ، فكان الأكثر تفهما لطبيعة علاقاتي وظروفي ، وهو الذي يفسرها للآخرين حين يفهمونها خطأ ..
بينما كان الأخ محمد مينو متأرجحا في قربه وبعده ، لحساسيته الزائدة ، وأنفته المفرطة التي لا تختلف عن الاشمئزاز في كثير من صورها وانفعالاتها ..
وفي المدرسة ، وبالإضافة إلى استمتاعي بنوادر " محمد شريف " ولطفه وأريحيته ، كان " نبيل زيدان " ذا شخصية واضحة ، دمثا ، لبقا ، مكلاما ، كريما ، سريع النكتة والبديهة ..
جنسيته وجيناته لبنانية صرفة ، يتقافز بمهارة على جميع الحبال ، ويتوق لبلوغ التميز ولو كان سرابا ..
لم يتوان في تقديم أي مساعدة أو خدمة لي ، كونه رآني بعينين منشرحتين ودودتين .. فتقرّب مني مفصحا عن تقديره الخاص واحترامه .. وسريعا ، ارتبطنا بصداقة حميمة ، وفتح لي بيته ، وقدمني لزوجته وولديه ..
كان شغوفا باقتناص فرصة وجوده في دبي ، راغبا بإكمال مشاريعه الخاصة في بيروت ، ليعود إليها سريعا .. بينما لم تبد زوجته السيدة ليلى في عجلة من أمرها ، وهي تقوم بالتدريس في إحدى الجامعات الخاصة ..
وامتدت ساحة العلاقات الشخصية ، وتوسعت مع تكرار اللقاءات بالصديق " زياد خليفة " وأبناء عمومته الذين وفدوا على الإمارات لتجارة " السكراب والقطع التبديلية " ، فجمعتنا سهرات ولقاءات ورحلات إلى الشواطئ والحدائق ، قضينا فيها أوقاتا لطيفة ..
وما أن حصلت على " الإقامة " ، حتى بدأت بإجراءات الحصول على رخصة قيادة السيارات .. وكانت المهمة شاقة وعسيرة لاختلاف القوانين ونظام الطرق ، ولضرورة التمرس بالقيادة بواسطة مدرب خاص ، يساعد على تجاوز الفحوص النظرية والعملية الصعبة ، رغم أني حاصل على رخصة سورية منذ أكثر من عشرين عاما ..
وفي الامتحان الثالث ، اجتزت العقبة بالحصول على الرخصة ، واستلامها في 31/12/1992 ، أي بعد شهرين تقريبا من البداية .. وكان ذلك ـ في منظور الأصدقاء ـ  نجاحا فائقا متميزا بالفوز وسرعته ، ويعدونها مساوية ومعادلة بالأهمية " لشهادة الدكتوراه " ، نظرا للصعوبات التي يواجهونها في الحصول عليها .
ومع اقتراب موعد العطلة الانتصافية ، نشطت الاتصالات بمكاتب السفر لحجز التذاكر ، وأدت إلى تقارب " نفعي متبادل " مع الأخ " ماهر عطار " الذي يدير مكتبا للحجز الجوي في مدينة العين ، حيث استدل على عنواني وزارني في البيت بصحبة زوجته وأطفاله ، ففرح بحصولي على الرخصة ، لأتولى قيادة سيارتهم في الطرق التي يجهلها بين الشارقة ودبي في معرض إنجازه لحجوزات مكتبه ، كما سهلت لجميع الزملاء مهمة حجوزاتهم أيضا بواسطته ..
وفي مشوار مشترك لنا إلى سوق " الحمرية " المركزي للخضار والفواكه بدبي ، التقيت ـ للمرة الأولى ـ الزميلتين " دعد وسهير "  وكانتا تقيمان في " سكن المدرسات " ، فتقصينا أخبار بعضنا ، وصودف أني أعرف أخت دعد وخالتها " أم أدهم " ، كما أن صديقي محمد نديم فتال شقيق زوج سهير ..
وفوجئت في اليوم التالي باتصال هاتفي في غرفة " المدير الجديد " لمدرستنا ، من الزميلة دعد تطلب مني أن اصطحب معي في رحلة العودة من سوريا ، الابنَ الرضيع لزميلتها سهير ، حيث تركتْه في حضانة أمها ، لعدم تفويت فرصة العمل هنا ..
وأبديت لها استعدادي للقيام بما أستطيع ، على أن تراجع أمُّه الدوائر المختصة لمعرفة المطلوب ، كبداية عملية للتنفيذ ..
عقب انتهاء المحادثة ، لاحظ المدير " عبد الله الحلو " اضطرابي ، فحوقل بعد أن عرف مني فحوى الطلب ، وأثنى على موافقتي " الإنسانية " ، وعرض مساعدته إذا احتاج الأمر ..
أعطتني تفويضا عند الكاتب بالعدل ، يسمح لي باصطحابه معي ، واستكمال إجراءات دخوله إلى الدولة ، كما استصدرت له أمُّه " إذن دخول " من دائرة الإقامة والجنسية ، على أن يتصل بي ذووها في حلب للتنسيق واستلام الطفل " محمد غسان فتال " في دمشق ، حيث مطار الإقلاع بالعودة ، وستنتظرنا بفارغ الصبر في مطار الشارقة ، وعلى أحر من الجمر ..

كان الشوق والعشق قد تكدّسا وتأجّجا طيلة الشهور الماضية التي نأيت بها عنها ، فتم اللقاء بعد الفطام ..
كان المستقبلون يعتقدون أني هائم شوقا لهم فقط ، والحق ، أني هائم بهم أيضا .. لكن هيامي الأول والأخير ، أني في ثنايا أردانها وحنايا أعطافها .. تعبق شوارعها برائحة الشتاء والبرد والليل ، وتتعطر أغصانها اليابسة بالمطر حنوًّا وخفرا ، فتنساب مع الشهيق بردا وسلاما ..
وحالي : " كمن يتشهّى وجهَ مَنْ عشقا " ..
لكن .. هيهات يعود الزمن إلى الوراء ..
كانت هذه المدة هي الأطول التي أغيب فيها عن حلب ..
إنها حلب ـ حلبي أنا ـ سقف بيتي .. شغاف عشقي .. أنيسة كينونتي .. أريج دمي .. نشيج دمعتي ..
مرت أيام الإجازة في حلب ، كنسمةٍ في صيفِ وجداني القائظ ، رغم أننا في أواخر أربعينية الشتاء من عام 1993 ..
ولولا صحبة السفر منها في العودة إلى دمشق ، لاصّاعدت من صدري شهقات الروح وسكراتها وغرغراتها ..
وفي المطار ، تمت الإجراءات ، واصطحبت الطفل " محمد غسان فتال " معي ، وتناوبت الزميلات على رعايته في الطائرة حتى وصولنا مطار الشارقة في ساعة متأخرة من الليل ..
وحين احتضنته أمه ، انبلج صبح جديد في أعماقي ، رافقته رعود هزتني بقوة ، وغالبت إجهاشا كاد يرميني أرضا ..
ولم يكن بوسعي سوى الهروب بعيدا عنهما تفاديا للمزيد ..
أما الآن ، ( فإن استحضار لحظات موجعة من الماضي ، يفاقم الألم أضعافا ، ويوشيه بمزيج من ألوان قاتمة ) ..
(انتهى الفصل الأول )
السبت ـ 20/10/2012

الصورة المرفقة : لـ : محمد غسان فتال ـ في الطائرة السورية باتجاه الشارقة ـ كانون الثاني 1993

الجمعة، 12 أكتوبر 2012

دمشق ـ دبي ـ 2 ومضى نهار آخر


ومضى نهار آخر 


 لم تكن المتاعب والمصاعب والقلق أقل في الفترة التي سبقت ـ منذ أن فتح لنا باب الولوج إلى هذا العالم ـ مما نحن فيه الآن ، على عكس ما كنا ننتظر ، خاصة أننا محسودون على إقامتنا في دبي ، حيث يحلم الكثيرون بالعيش فيها ، ويتنافسون على اغتنام فرصها ، واستغلال ظروف انفتاحها ، وسلاسة قوانينها ، وجودة وتنوع خدماتها ، ولطف وانضباط شرطتها ، وأريحية التكيف فيها مع كل ما يتمنى المرء ويشتهي ..
بل ، تنوعت المتاعب أكثر ، وازداد القلق أضعافا ، وزاد عليهما جوٌّ من الوحشة فوق الغربة ، وواجهتنا عقبات ومشاكل لم نكن نحسب لها حسابا ، ولم تكن في وارد يومياتنا ، نظرا لاختلاف الخطوط المجتمعية العامة والخاصة ، والتوجهات والعلاقات المسلكية التربوية ، وحيثياتها ونظامها ومندرجاتها والعلاقات التراتبية من القاعدة إلى القمة ..
كل ذلك في بيئة اقتصادية مدهشة في أساليب التسويق والعرض وتقديم الخدمات ، وبيئة اجتماعية متباينة الدرجات والمواقع والحقوق ، شديدة التنوع والخصوصية ، وذات فرادة وهمية مصطنعة قائمة على تميز خادع هزيل ..
إلا أن النظام العام مصون بقبضة فولاذية خفية ، مسيطرة مهيمنة موجودة في كل مكان ، تحس بها دون أن تراها أو تلمسها .. علاوة على جودة وتنظيم الخدمات العامة والخاصة ..
وكان باديا للعيان ، أن ثمة مشروعا تطويريا ضخما قيد التنفيذ ، بدأت تتضح أبعاده وملامحه ، من خلال مواقع تحديث وتطوير البنى التحتية ، ومن خلال التكاثر السريع للروافع البرجية في سماء المدينة ومحيطها كأنها أذرع سرطانية بهلوانية لا تهدأ على مدار الساعة ، في سباق محموم مع الزمن ، ما لبثت أن حولت الصحارى المحيطة إلى مدن سكنية وتجارية وصناعية ورياضية ومطارات ومنشآت ومناطق حرة وجزر صناعية ، تربط فيما بينها طرق سريعة وجسور وأنفاق بمواصفات أمان عالمية .. مما استوجب استقدام أيد عاملة وخبرات فنية بأعداد كبيرة جدا ، كان لها الفضل الأعظم في بناء كل الإنجازات التي تتحقق تباعا ، فنتجت عنها أزمات في السكن البسيط والمتوسط ، واختناقات وزحام شديد في الدوائر المتخصصة باستخراج تأشيرات الإقامة اللازمة لها ، وفي المواصلات والأماكن العامة ، وصارت الشوارع كلها أسواقا تغص متاجرها بمختلف البضائع والمستلزمات ، وبألوان وأشكال من البشر من أصقاع الأرض ..
وانتشرت ظاهرة  " المعارض ومهرجانات التسوق " في المراكز التجارية الكبرى والأسواق المتخصصة ، التي عمت كل الأرجاء ، وتعاظمت في قلب المدينة أيضا حركة التوسع العمراني أفقيا وعموديا ، ورافقتها على التوازي مشاريع توسيع الطرق والجسور والشبكات والمرافق العامة ..
في ظل تلك المعمعة ، كنا ـ في جو العمل ـ نشعر أننا نعيش وسط حقل ألغام ، غير آمنين ولا مطمئنين على حاضرنا ومستقبل عملنا ، حتى صارت الجملة السائدة لنا عقب انتهاء الدوام اليومي " على خير " :
ومضى نهار آخر .. " مقرونة بزفرة طويلة " ..
ذلك ، بسبب الحدود والضوابط الحاكمة بين المدرس والطالب ، من جهة ، ومع المدراء والموجهين المشرفين على العملية التربوية ، من جهة ثانية ، نتيجة الإجراءات القانونية والتربوية والتنظيمية التي تحكم العلاقة بين الأضلاع الثلاثة للعملية التربوية : المعلم والطالب و( ولي أمره ) والإدارة  ، والتي تختلف اختلافا جذريا عما هو عليه الحال في بلدنا ..
فقد كان الطلاب المواطنون حصرا ، شديدي البلادة والاتكالية والكسل واللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية ، ممزوجا بقلة الاحترام وحب الفوضى وعدم الالتزام والتأفف والتهرب من الواجبات والدروس ، لأنهم " ليسوا بحاجة للتعلم ماداموا قادرين على استخدام من يقوم بأعمالهم في كل ما يحتاجون " ..
 يضاف إلى ذلك شيء من العنصرية التي تشرّبوها في بيوتهم من خلال تعاملهم مع جنسيات العاملين فيها ، كالخادمات  والمربيات والسائقين ، حيث ينظرون إليهم بوضاعة وامتهان ، وأن مصيرهم مرهون بحسن تصرفهم مع " أرباب نعمتهم " ، وبانصياعهم لهم وتنفيذ ما يطلب منهم بلا تردد ولا تذمر ولا تلكؤ ولا نقصان ، فصاروا يعتقدون أن كل من جاء لبلدهم ، إنما هو عامل أجير لديهم ، " يسلبهم " أموالهم لقاء عمل " بسيط " من " واجبه " أن يقوم به ، وعليه تقديم " خدمته " لهم صاغرا راضخا ، ومن فم أبكم ، كما يفعل كثير من أبناء الجنسيات الوافدة ..
وبالنتيجة : يتساوى أمامهم كل الوافدين ، فلا يختلف عندهم المدرس " الوافد " عن هؤلاء ..
وكان التماس الأول والمبكر والمباشر لي ، مع ولي أمر أحد الطلاب :
انتحى بي وكيل المدرسة ( اليمني الأصل ) جانبا عند انصرافنا ليسألني باهتمام : هل ضربت أحدا من طلابك اليوم ؟
نفيت له مستغربا سؤاله .. فقال : إن ولي أمر أحد الطلاب يريد مقابلتك .. وأشار بيده إلى غرفته ..
حييت الرجل ، ومددت له يدي مسلما ، فترك عصاه من يمناه المرتجفة المعروقة ، ومدّها دون أن يعتدل من شبه استلقائه على الكرسي أمام الطاولة ، متجها إلى الباب ..
بدا طاعنا في السن ذا لحية طويلة مرتجفة أيضا ، وبالكاد خرجت من بين بقايا أسنانه بضع كلمات لم أستطع التقاط معانيها ، نظرت إلى الوكيل مستفهما ، فأعادها :
يقول : إنك ضربت ابنه على رقبته في طابور الصباح ..
جلست قبالته محاولا أن أتذكر أحداث الطابور ، فلم أعثر على ما يجعلني أضرب طالبا .. قلت للوكيل : أنا لا أذكر ، لعلي أعرف الحدث إذا رأيت الطالب .. أين هو ؟
نهض الوكيل خارج الغرفة ، وعاد معه أصغر طلابي حجما .. سألته : كيف ضربتك ؟ ولماذا ؟ قال : وضعتَ يدك على قفا رأسي وشددت شعري .. ( وكنت فعلت ذلك لشفقتي عليه ممن يسخرون من ضآلة حجمه ) ..
شرحت ذلك للوكيل ، ليقيني أن أباه لن يفهم قصدي .. فأرعد الأب وأزبد بعد أن " ترجم " له الوكيل ذلك بطريقته ، فراح يهددني ويتوعدني ملوحا بعصاه ، وبأنه سيشتكي حالا للوزارة لـ " تفنيشي " .. أي : ( لإنهاء عملي ) .. وهي لفظة إنجليزية " كابوسية مرعبة شائعة ، تقض مضاجع الوافدين عموما " ..
ووسط دهشتي من حركاته وأقواله وهو يهتز فوق كرسيه ، قلت له واقفا : اسمع يا هذا : كنت أعتقد أننا جئنا هنا لنعلم ونربي أبناءكم ، لكني أرى أن آباءهم أولى بالتربية منهم ..
فوضع أحدهم يده على فمي من خلفي .. وهو يرجوني ألا أكمل ، كان ذاك زميلنا " نبيل زيدان " .. ثم أخذني بين ذراعيه باتجاه الباب الذي تجمع حوله عدد من الزملاء منتظرين نهاية المسرحية .. تأبط نبيل ذراعي متجها إلى غرفة المدير المجاورة ( شغرت بعد انتقال المدير وعدم تكليف بديل ) ، وتبعنا مفيد ومحمد شريف الذي توعدني ضاحكا : لم تر شيئا من وقاحتهم بعد .. لا بد أنك ستعتاد عليهم ..
ثم جاء الوكيل راغبا أن نرافقه بسيارته ليوصلني أنا ومفيد إلى البيت ..
في الطريق ، قلل الوكيل من أهمية كلام هذا " المطرزي الشيبة " .. وحين تساءلت عن معنى كلمة " مطرزي " ، قال : تعني أنه من أتباع الشيوخ وملازميهم للخدمة ككلاب الصيد " ..
وتحدث ناصحا لنا من خلال تجربته في العمل طويلا في هذا البلد ، حيث اختلفت حال العلاقة بين المدرس وطلابه في السنوات الأخيرة .. وما كان جائزا للمعلم قبل سنوات صار محرما عليه ، بعد أن تعاظم شأن الدولة وصارت مقصدا للكثيرين .. وأن الدولة تبني المدارس والمنشآت وتزودها بكل ما يلزم ، وتستقدم المدرسين وتقدم كثيرا من المغريات المالية للطلاب وأولياء أمورهم ..
لكن ـ حسب رأيه ـ ليس ليتعلم الطلاب ، وليس المطلوب أن يتعلموا ، إنما كي تسد الدولة الذرائع ، وكي لا تُتهَم بالتقصير تجاه مواطنيها ..
وأضاف : أنا اعرف أن كلامي خطير وجريء جدا ، وستكون منعكساته وخيمة علي إذا أشيع عن لساني .. ولن تسمعوه من أحد غيري ..
لكن أقول لكما هذا الكلام لأني أفهم نفسية المواطن السوري المختلفة عن غيره ، وأعرف ثقل ووطأة استفزازاتٍ على هذه الشاكلة ، ستواجهكم جميعا ، كما واجهت غيركم ..
وفي البيت ، حين رويت ما حدث للزملاء ، ضحك محمد مينو ، وقال : اسمع هذه : أحد المدرسين المناوبين ضبط حالة لواطة في حمامات المدرسة ، فأبلغ المدير الذي استدعى ولي أمر المفعول به .. فجاءت أمه صارخة في وجه المدير : وايش بلاك تستدعيني ؟ أي : ( لماذا تستدعينني ) ؟
فأخبرها المدير بالحادثة ، فعادت تصرخ :
وَيْ وَيْ وَيْ .. كنت أظنه يتتن ( يدخن ) !!! هو خنيث وأبوه خنيث ويده ( جده ) خنيث .. هو يتخنث الحين ( الآن ) وباجر ( غدا ) يخنث غيره !!
ثم نهضت خارجة من مكتب المدير ، وهي تردد مستنكرة ساخرة : كنت أظنه يتتن .. كنت أظنه يتتن ...
طبعا ، لم تكن هذه هي الحوادث والنوادر الوحيدة .. بل كانت ـ لكثرتها وتنوعها وغرابتها ـ  كالأمثال السائرة على كل لسان ، ولا يكاد يمر يوم دون مشكلة أو حادثة واحدة على الأقل ، مع كل واحد منا .. والمحظوظ ، هو من لا تتطور مشكلته لتصل مفاعيلها إلى ولي الأمر أو الإدارة ..
وكان أسوأ القلق الذي ينتابنا ، حين تقع المشكلة يوم الخميس ، فيمر يوم الجمعة طويلا ، ثقيل الوطاة ، انتظارا لما قد يسفر عنه يوم السبت من تفاعلات مشكلة يوم الخميس ..
فيما بعد ، صارت عطلة نهاية الأسبوع يومين ، فتنامى هذا القلق سوءا ، واتسعت دوائره ، حتى صار مصدر نكد للأسرة ، يمتد طيلة يومي العطلة ..
ولم تكن هذه الحوادث محصورة بين المدرس والطالب ، فقد تحدث لنا عدد من الموجهين الاختصاصيين الذين زارونا في البيت ، عن كثير من معاناتهم مع الطلاب أثناء حضورهم الحصص ، كنتيجة حتمية لضعف تأثير الإدارة في قدرتها على الضبط العام ، أو لضعف قدرة المدرس في حصته على فرض الانضباط في حضرة الموجه على الأقل ..
ولعل الوجه الآخر من المشكلة هذه ، يكمن في طريقة تعامل كل مدرس مع البيئة المدرسية ، وفي قوة شخصيته ، وقدرته على اكتساب احترام طلابه داخل الحصص وخارجها ..
وثمة صفات كثيرة ، كانت تلعب دورا هاما في شخصية المدرس ، ونظرة الآخرين لها ، وموقفهم منها .. بدءا من نوع دخانه وسيارته وهندامه وقيافته ، وانتهاء باتزانه وتعففه وقدرته على إقناع الآخرين بإمكانياته العلمية وأهميتها وتميزها ..
وبشكل عام ، كانت جنسية المدرس توحي بانعكاس أولي خاص عن شخصيته ، تدفع الآخرين للتعامل معه بفكرة مسبقة ، سلبا أو إيجابا ، حتى يثبت العكس ..
وبدا واضحا لنا أن كثيرا من زملائنا المصريين ، هم من ساهموا في شطط وميوعة الطلبة واتكاليتهم وتطاولهم وتجرئهم على تجاوز الخطوط السلوكية الحمر ، في علاقاتهم مع بقية أعضاء الهيئة التعليمية ..
وبالتأكيد ، هناك زملاء مصريون كثيرون أيضا ، جديرون بكل الاحترام والتقدير ، وكانوا مثالا يحتذى في كل شيء ..
كما كان هناك زملاء آخرون ، من كل الجنسيات الأخرى ، لا يختلفون أبدا عن أولئك الذين ساهموا في زعزعة وتشويه صورة المدرس ومكانته ، وكان ذلك في نهاية عام 1992 ..

الجمعة ـ 11/10/2012


الصورة المرفقة هي لمشروع جسر ونفق ( الدفاع ) في شارع الشيخ زايد بدبي ، جانب المبنى الذي كنا نسكن فيه . خريف عام 1992 .