الأحد، 11 ديسمبر 2011

المجند خَلـَف حمدي ـ، قصة ليست قصيرة


المجند خَلـَف حمدي

 تعتلي الشمس كبد الأفق الشرقي ، تستحم بالندى ، وبهمسات العصافير ، التي تطغى عليها أصوات السيارات المسرعة ..
ثمة مارة ، عمال وفلاحون وتلاميذ وعسكريون ونسوة ..
يلفظني " باص المبيت " المزدحم .. تتلقاني نسمات ضبابية ، أقشعر ، وأتفل باتجاه الريح ، ثم أتهيأ لقطع ثلاثة كيلومترات مشيا ، في طريق كان ترابيا ، فطار التراب ، وبقيت الأحجار ، بنتوءاتها الحادة ومسنناتها ، تفري أقسى النعال ..
الكل متجه جنوبا ، ووحدي أتجه شمالا .. أسير ببطء في البداية ، لعل سيارة عابرة ، أو دراجة نارية ، توفر عليّ ساعة من المشي المضني ..
وعندما أجتاز جلّ المسافة ، يكون المشي البطيء قد نال مني ، فأحث خطاي حتى إذا ما لحقت بي سيارة أو دراجة أرفض إكمال الطريق بها ، " احتجاجا على حظي العاثر " ..
كنت أقطع المشوار مرتين أو ثلاثا أسبوعيا ، حسب رضا النقيب محمد جميل عني .. وإلا ، فالإقامة في الخيمة ثلاث ليال ، والمغادرة عقب دوام اليوم الرابع ..
فإذا كان راضيا ، يسمح لأحدهم أن يوصلني على دراجته للطريق العام ، أو تحملني إليه سيارة الطعام إذا تصادفنا ..
وحين يغادر النقيب في إجازة ، أبقى أنا وزميلي الملازم محمد هندي ، فنتبادل المبيت يوما بيوم خلافا للتعليمات ، مغامرين بما يمكن أن يحصل ، أو بأن يتفقدنا الضابط القيادي المناوب ، أو قائد الفوج نفسه ..
لذلك ، فإن هذه الهواجس تأكلني طيلة الطريق ، ولا أتحلل منها إلا بعد وصولي للمربض ، فيكون وقوع الشر ـ لا سمح الله ـ أهون من انتظاره ..
ويظل مشهد التلاميذ الذاهبين إلى مدارسهم خير عزاء لي .. فهم يسيرون جماعات ، منتشرين في عرض الطريق .. فإذا شاهدوني ، يتصنع أحدهم الوقوف باستعداد ، منتصبا مشدودا يكاد يقع خلفا ، ويكتسي وجهُه بملامحَ جادةٍ ، تخفي تحتها ظلالَ ابتسامةٍ بريئةٍ .. وإذ أردُّ له التحية ، يطير إلى أقرانه : أرأيتم كيف ردَّ التحية ؟ ألم أقل لكم لن يضربني؟! .
وثمة تلميذة تمشي مع أخيها ، تلتهب وجنتاها وهي تنطق بأحرف بالكاد أسمعها ، حين قالت لي أول مرة : صباح الخير يا آنسة ..
ضحكت من قلبي ، بينما يحاول أخوها أن يصحح لها ..
ومن بعيد ، كنت أعرف التلميذ الذي سيبادرني بالتحية ، لأنه ينتحي من بين زملائه بعد أن يتهامس معهم ، وكأنه يأخذ تفويضا منهم بذلك ، ثم يسوّي سيدارته ويشد مشيته وقامته ، ناقلا المحفظة من يمناه إذا كانت فيها ، وقد يؤدي التحية باليسرى أحيانا ...

 1 ـ

عِربيد ، قرية صغيرة كأنها امرأة جاثمة في المخاض ..
أغادرها وأعود إليها ، فأجد الهواء جامدا في مكانه لا يتزحزح ..
تقع غرب الطريق الترابي ، إلا بعض بيوتها ، ودكان " أبو الشيخ " شرق الطريق ..
وهنا السوق الكبرى للمنطقة وللعسكر ، وهو بيت عائلة " أبو الشيخ " ، ينامون داخله شتاء ، وأمام بابه وحوله صيفا ..
ويقصدهم في الليل أهالي القرية وبعض الجنود ، يقضون السهرة على ضوء مصباح كهربائي خافت ، منصتين ، ومنشدّين بأبصارهم إلى شاشة تلفاز بحجم أربع عشرة بوصة ، يتماوج ويتمازج عليها لوناها الكالحان ، فيما تشكل سحب دخان سجائرهم ضبابا يحرق العيون والصدور ..
وبين الدكان ومربض السرية بضع مئات من الأمتار ، فيبدو مسترها الترابي واضحا ، ووراءه عامل النظارة المناوب ، وقد ترك الفضاء وسدّدَ منظارَه باتجاهي ، وهو يلوّح حتى أرد عليه ..
والنظارة هذه ، كعصا موسى عليه السلام .. لها أكثر من وظيفة ، وليس أهمها تفتيش الفضاء عن " أهداف معادية " ، لأن هذه الطريقة أكل الدهر عليها وشرب ، ولم تعد مجدية أبدا ..
لكن الوظيفة الأهم لها : التعرف على القادمين إلى السرية ..
فإذا كان القادم قائد الفوج أو رئيس أركانه ، سرت داخل المربض حركة غير اعتيادية تأهبا وتحضيرا ، ونضطرب نحن إذا لم يكن قائد السرية موجودا ، وكان ثمة نقص غير مشروع في عدد العناصر ، ولم نقم بالتبليغ عنه مسبقا .. وكثيرا ما كان يحصل ذلك ..

حين وصلتُ المربض ، حيّاني الحَرَس ، وقال :
الحمد لله على السلامة .. وهمس وهو يتبعني : استعذ بالله من الشيطان قبل دخولك يا سيدي ..
استدرتُ إليه غير عابئ ، وقلت : أعوذ بالله منك ..
ألِفَ العساكر مني مثل ذلك ، لكن إلحاحه جعلني أتوقف لأسمعَه ، قال جادّا :
الله يوفقك يا سيدي أنا لا أمزح .. الأرض مسكونة ..
قلت ساخرا من اهتمامه الشديد : طبعا مسكونة .. ألسنا ساكنيها؟! .
تمتم مستعيذا ، وقال بخوف : الأرض مسكونة بهم ، وأشار إلى الأرض ..
لم أكترث .. هززت برأسي ، ومضيت إلى الحفرة ـ الخيمة ..
وكعادته الملازم محمد ، يبادرني بأهم الأحداث قبل أن يسلم علي .. قال من خلال ضحكته الناعمة فعلا :
كانت ليلة الأمس ليلة ليلاء ..
وحين تصافحنا ، بدا لي وجهُه النحيفُ أشدَّ نحافة ، وبدت لحيته سوداء وأطول من المعتاد .. ثم تابع :
أما سمعتَ عن الجن الذين ظهروا الليلة الماضية في السرية ؟! ..
استلقيت على سريري منهكا ، وقلت :
لا أعتقد .. فهم يقيمون بيننا ، وليست بهم حاجة للظهور ليلا فقط ..
بيني وبين نفسي ، تذكرت كلاما من الملازم أحمد الذي سُرِّح قبل مدة ، حين قال لي : إن العساكر نقلوا إليَّ كثيرًا من حَكايا الجن الذين ظهروا على الحراس في الليل ، ليدبّوا الرعبَ في قلبي ، كي لا أتفقدهم أثناء نوبات حراستهم ..
أما الملازم محمد ، فقد كرّر ضحكته الناعمة الهادئة ، واتجه إلى باب الخيمة ، وقال قبل أن يغادر : اسأل خلف حمدي .. هو سيروي لك كل شيء بالتفصيل الممل ..

تضاريس خلف حمدي :

قوي كثور فتي .. خشن البنية والملامح .. سمرته داكنة .. كثيف الشعر .. مطيع دوما ، وانضباطي بالطبع .. مظهره الخارجي ينم عن هدوء واتزان .. لكنه سطحي التفكير إلى درجة السذاجة . أخفق أكثر من مرة في امتحان الشهادة الإعدادية .. ينتمي إلى البادية الشرقية الشمالية ، ولهجته أصلية مطبوعة بطابع بيئته ..
عَدّاء ، ورياضي ممتاز ، ونموذجي في أداء التمرينات الرياضية حسب أصولها .. لذا ، فهو المكلف بالذهاب يوميا صباحا إلى " جديدة عربيد " ، حاملا كيس بقايا الخبز الفائض عن الاستهلاك اليومي في السرية ، ليبادله بكمية من الحليب ، نتناولها مع وجبة الفطور ..

كنت الضابط المناوب الوحيد في السرية ..  
سقف الخيمة يرشح لهيبا لاسعا ..
تناولت طعام الغداء ، ثم حملت النرجيلة ولذت بظل خيمة مفتوحة على كل الجهات ..
تهب نسمات حارة تحرك الغبار والأتربة ، فيما يلتمع السراب حولنا ، فيبدو بحرا من ماء هائج .. قلت :
ـ هات حدّثني يا خلف ..
ترك الأواني التي كان يغسلها ، وهُرع إلي : حاضر سيدي ..
تلفت حوله ، ثم دنا مستظلا بالخيمة ، وقال :
أيقظني " عريف الحرس جنيد " .. كانت نوبتي من الواحدة ليلا حتى الثالثة ، هناك في المحرس الثالث ، ( وأشار بيده إلى الجهة الشرقية الشمالية من السرية ) ..
استلمت البارودة والجعبة من الحرس النازل ، وتجولت بين الحاسب والرادار وقائس المسافات ، ثم التجأت إلى عربة الحاسب لأشعل سيكارة ، فأحسست بحجر يصيبني في ساقي الأيسر .. التفت إلى مصدرها محترسا ، لكني كنت موقنا أن أحد زملائي قد جافاه النوم ، فخرج يشاغلني ، لنتسلى معا .. واختلف الأمر كثيرا حين لمحت خيالا يعتلي مستر السرية ، ثم يعبره داخلا باتجاهي ..
صَمَتَ .. تنفس بعمق ، ونقل عينيه من زجاجة النرجيلة إلى الأفق الغربي كأنه يستعيد لحظات الرعب التي انتابته ..
كنت أتابع ملامح وجهه وتغير لونه ، والرهبة التي شعت من عينيه ..
ناداني عامل المقسم لأرد على مكالمة من الضابط القائد المناوب ، أجبته على تساؤلاته ، وعدت ..
خلف ، كأنه أحد أعمدة الخيمة .. لم يتحرك ..
تابع كلامه وكأن شيئا لم يكن : كان القمر غائبا يا سيدي ، وليس في السماء سوى نجوم تلتمع وتتوهج .. ارتعشت ، وانبطحت وصحت به بخوف : قف .. مَن هناك ؟
لم يتوقف القادم ، وقال : أنا عريف الحرس ..
اقتربَ أكثر مني ، صحت ثانية بصوت تردد صداه بعيدا ، فاقتربَ أكثر .. هيأت البارودة وقلت : أعطني كلمة السر .. كلمة التعارف .. قالهما ولم يتوقف .. هددته بإطلاق النار فلم يرضخ ..
وقتها تذكرت يا سيدي أنك قلت لنا : الهجوم خير وسيلة للدفاع .. اندفعت صوبه قاتلا أو مقتولا .. فلم أره إلا هاربا فوق المستر ، وهناك ، بدا لي حجمه أكبر بكثير من جنيد عريف الحرس ..
لم يكن بوطي مشدودا على قدمي .. خلعته بسرعة ، وركضت خلفه إلى ما وراء المستر .. لكن العتمة ابتلعته وأخفته عني ، فأطلقت صلية باتجاهه ، وانبطحت على الأرض لأسترد أنفاسي ..
كل ذلك جرى في لمح البصر .. فاستنفرت السرية ، وأنيرت مصابيح الخيام والساحة ، وتجمع الشباب حولي ، ولم أستطع الرد على كل استفساراتهم الملحة ، فاستلم عصام نوبة الحراسة عني ، وذهبت إلى الخيمة أرتعد وأرتجف ..
سألته ضاحكا : كنت ترتجف من البرد أم من الخوف ؟! ثم ، هل كنتَ متأكدا أن عريف الحرس أيقظك ، وأنك تسلمت نوبة حراستك ؟!..
ـ السرية كلها شاهدة يا سيدي .. والله أنا ما أزلّ عليك ..
غمزني سامح عامل المقسم ، وقال من ورائه : ليست هذه المرة الأولى التي يطلعون فيها عليه ..
لم ينتظر خلف دعوة مني ، فقال : كنت يا سيدي يومها حرس مدخل السرية ، وكانت نوبتي بين الثالثة والخامسة فجرا ، لمحت شخصا يسير فوق المستر متجها إلي ..
صحت : قف من أنت ؟
فقال : أنا النقيب يا خلف .. طبعا لم أصدقه ، فقد لا يكون هو ، وكان ما يزال يتقدم ، صحت به : قف .. أعطني كلمة السر ..
قاطعته : ألا تميز صوت النقيب ولهجته من غيره ؟!
ـ أقسم لك يا سيدي أنه صوته ولهجته .. أنا أميزهما من بين كل العالم ..
تجمع عدد من العناصر حول المكان ، نظر في الوجوه المحملقة فيه ، مدّ له أحدهم يده بسيجارة ، فاعتذر وتابع :
اقترب النقيب مني حتى حاذاني ، وقال :
أكنت نائما يا خلف ؟!
قلت : وأنا أحييه : أعوذ بالله يا سيدي .. أنا لا أنام أبدا ..
ولم أكد أتم كلامي ، حتى ذاب كفص ملح في الخابور ..
قال أحد العناصر : وبقيتَ حيًّا يا خلف ؟!
أجابه بسذاجة وجدّية : نعم ، أنا حي .. ألا تراني أمامك ؟!
فقال ثان متجها بكلامه إلي : يا سيدي ، نريد أن نعرف من خلف حكاية كيس البحارة ..
لم يكذب خلف خبَرًا . بل تابع بنفس الوتيرة :
فـُقدَ كيس البحارة يا سيدي ليلة داهموني في المحرس الشرقي ، وبحثنا عنه في اليوم التالي أنا وحامد العليوي ، فوجدناه جانب خندق الدفاع الذاتي للمدفع الثاني ، وكانت محتوياته مبعثرة حوله ..
ـ ألم يًسرَقْ منه شيء ؟
ـ سُرقت منه ثيابي المدنية فقط ..
ـ ما معنى أن تسرَقَ ثيابك المدنية فقط ؟ من له مصلحة بذلك ؟ ألم تجدها فيما بعد ؟
ـ لقد ضاع أثرها نهائيا يا سيدي ، ولا أعرف من أخذها ..

"" منذ لقائي الأول بخلف ، ارتحت له ، ولحرارة صدقه ، وبراءته التي لا توحي بها أوصافه الجسمية ..
وكنَنْتُ له ودًّا جعله فوق موضع الشك عندي .. لكن ، ليس ثمة مناص فيما يبدو ، لأن تصديقه ههنا مستحيل رغم أيمانه وتأكيداته "" ..

وصَف النقيب محمد الحادث بأنه لعبة غبية ، استهدف خلف من ورائها شيئا ما ..
والملازم محمد ، كان بين الشك واليقين ، فهو غير قاطع في أي شيء .. واكتفى بأن ضحك لمجريات الأحداث ، وقال : لا بد أننا سنسمع أغرب مما سمعنا ، ما دمنا هنا في عربيد ..

ما جرى قبل تلك الليلة :

كنا أنا والملازم محمد جالسيْن تحت المظلة ، عندما انعطفت سيارة أجرة باتجاه مفرق السرية ، وتوقفت قرب المدخل ، وترجل الراكب منها ، فهُرع الحرس إليه ..
تكلما ، ثم جاءنا الحرس راكضا :
إنه العسكري سليمان أخو العسكري حامد العليوي ، ويريد زيارة أخيه ..
قال له الملازم محمد : حامد مغادر ، وسيعود غدا ..
قلت للحرس : أخبرْهُ بغياب أخيه ، فإن رغب بانتظاره ، أدخله ..

يرتدي سليمان ثيابا مدنية ، ويعتمر قبعة ذات فرو كثيف ، لا تستدعيها ظروفنا الجوية الحالية ، لكنه قادم من المناطق الثلجية في الجبهة ، ومغادرته قصيرة لا تكفيه للذهاب إلى قريته البعيدة ، ففضل أن يزور أخاه القريب نسبيا ..
رحّبنا به ، وقلت لخلف ـ وهما من قريتين متجاورتين ـ : ليكن ضيفك يا خلف .. هيئ له طعاما ، ودعه ينم ..
كان الإرهاق الشديد باديا عليه كله ، بينما تخفي القبعة بياض رأسه الحليق ..

ما جرى بعد تلك الليلة :

في الصباح ، وصلت إلى السرية منهكا ، ومنتشيا بنسماته ، فكان وصولي بمثابة نقطة في نهاية السطر ، لما كنت أسترجعه من سهرة الأمس مع الأصدقاء ..
قرب خيمته ، كان النقيب مصغيا لامرأة ، فهمتُ أنها " تدّعي على حامد الذي ذهب إلى بيتها ليلا ، يريد بدلته التي وضعها خلف عندهم ، وهددها بأنه سيفضحهم إذا لم تعطه البدلة " ..
رفعت المرأة يدا معروقة داكنة إلى شعر أبيض في رأسها ، خرج من تحت الغطاء ، فحركه الهواء فوق جبهتها قبل أن تعيده مكانه ، ثم ازورت برأسها جانبا ، وقالت : إننا مستورون والحمد لله .. ماذا رأى منا حتى يفضحنا هذا الخسيس النذل ؟؟!

كان العساكر ينفذون التمرينات الرياضية الصباحية مع الملازم محمد ، لكن المشهد أذهلهم عما هم فيه ، فانشدّوا بأبصارهم إلى قدمي حامد وقد شُدَّتا بحمّالة بارودة روسية ، ما لبثت أن انقطعت ـ لحسن حظه ـ بعد عدة سلخات بالكابل الرباعي المجدول ..
ولم تنصرف المرأة إلا بعد حصولها على وعد من النقيب ، بالقصاص التام من هذا النغل ( كما وصفته ) ..
أنكر حامد هذه التهم متباكيا ، وأضاف :
البدلة لي يا سيدي .. وقد ادعى خلف فقدانها ليلة ظهور الجن عليه ، وكان طلبها مني ليرتديها في إجازته ، فما وافقت ، فاصطنع حكاية الجن ، وألقى بمحفظته بعيدا ، وقادني في الصباح إلى موقعها الذي يعرفه بالضبط ..
لم يأبه النقيب لكل هذه التفصيلات ، لكنه استدعى خلف ، وقال له : يا خلف ، ستخلق البدلة خلال أربع وعشرين ساعة ، وإلا سحلتك بسيارة الزيل .. أفهمت ؟؟ ..
والتفت إلى حامد : أعلمني إذا لم يفعل .. انصرفا ..

بدا حامد ضعيفا رغم حقه بالبدلة ، وهو المَدين لخلف باستضافة أخيه سليمان ، الذي سطا على مئة ليرة من جيب خلف ، ثم أعطاه البدلة لقاءها ..
أما بركات ، فيزعم أن سليمان استدان منه مئتي ليرة ، كما استدان خمسين ليرة من عايش ، دفعها أجرا للسيارة التي أقلته إلى السرية ..
تنكر حامد لكل ذلك ، وقال : يا سيدي ، لماذا لم يطالبني أحدٌ منهم بحضور أخي ؟! أنا لم أرهم يعطونه شيئا ، وهو لم يقل لي أنه استدان .. فلو ترسلني ـ يا سيدي ـ بمغادرة كي أتيقن منه ، حتى إذا كانت أقوالهم صحيحة ، أجلب معي ما أسدّد به ، لأن أخي أخذ مني كل مصروفي ، وأنا استندت من عايش خمسين ليرة ..

العريف المجند عمار خيت :

المسألة وما فيها يا سيدي ، أن خلف هامَ بالبدلة التي تركها سليمان لأخيه حامد ، وتصوّر نفسه ماثلا بها في محراب حبه ، فاصطنع كل هذه الأحداث وزعم كل تلك المزاعم كي يظفر بها ..
وحامد ، طيب القلب ، وغبي ، ولا يرغب في إثارة القضية بكل أبعادها ، لئلا يتناهى إلى النقيب خبر مبيت سليمان في السرية ثلاثة أيام ، فآثرا الصمت ، والتجاهل ، لكنهم لم يدَعوه آمنا ..
أنا نصحت حامد يا سيدي ، أن يذهب إلى العجوز التي يتردد خلف على بيتها ، ويدّعي أن خلف أرسله لإحضار البدلة ، فإن كانت مخبأة هناك ، استلمها ، وكشف اللعبة ..
ـ ما علاقة خلف بهذه المرأة ؟؟
أشعل سيجارته بعد أن استأذنني .. تنهد .. تلفت حوله ، وأصغى قليلا بتوجس ، كضب ، وقال :
حكايتها طويلة يا سيدي .. بدأت مع تكليف خلف باستبدال الخبز الفائض عن السرية بالحليب ..
ـ إذن ، فنحن نشرب حليبها !!
ابتسم عمار بمكر وقال : حليب أغنامها .. فشَرَتْ هي ..
وتابع : لكنها سيدة البيت بما فيه ، رغم ما تراه فيها من عجز وبطء في الحركة ، فهي التي تتحكم بالجميع بموافقة زوجها المُقعد والمغلوب على أمره ..
لها ثلاث بنات أكبر من ابنها العسكري حاليا ، وقد تزوجت اثنتان منهما في قرى مجاورة ، وبقيت صفية حبيبة أمها ، وخلف ..
ـ ما الذي يجعلك تلهث وراء هذه التفاصيل يا عمار ؟!
قال بثقة وكأنه يعاتبني : أنا لا ألهث يا سيدي .. بل ، هم يلهثون خلفي كالكلاب العطشى ، طالبين النصح وحسن التدبير .. إنهم مساكين يا سيدي .. كثيرا ما أشفق عليهم من الوقوع في ما هو أكبر فتتدمر حياتهم ومستقبلهم ..
اتقدت عيناه وهو يحملق في وجهي ، كأن كلمة " تلهث " أغضبته ، فلاذ بالصمت متشاغلا بالقداحة الرديئة ، محاولا إشعال سيجارة أخرى منها ..
دُقّ ما يُسمّى باب الخيمة .. جاء الحاجب بالقهوة ..
تابع عمار بعد خروج الحاجب ، مشددا على بعض الكلمات كأنه يرد الاعتبار لنفسه :
يا سيدي ، لا تخفى عني خافية هنا .. وسيأتي يوم أعطيك معلومات سرية فيها كثير مما يفيدك في بقية خدمتك ..
لكن ، ليس قبل أحد أمرين : تسريحي ، أو اشتداد الأزمات حولك ..
توقفَ عن الكلام ، ولم أعلق ..
وحين لم أستزده ، فهم أنني أريد انصرافه ، فوقف مستأذنا ، لكني استبقيته : ألا تريد أن تكمل لي ؟! .
جلس ، أشعل سيجارة من العقب ، وتابع :
بتردده اليومي على بيتهم ، استلفتَ خلف نظرَ صفيه إليه ، حتى صارت تدعوه للسهرة عندهم .. وكثيرا ما غادر السرية إليهم ليلا ، ودون علم أحد منكم ، ولو كنتم ثلاثتكم هنا .. طبعا ، يتم كل شيء بترتيب مسبق ، ويتم التحكم بتوقيت نوبات حراسته بالتنسيق مع عريف الحرس ، حتى لا ينكشف أمره ..
كان يساهرهم حتى يغلبَ النعاسُ على الأب ، وتغيب العجوز بذرائع مختلفة ، تارة لتساعد جارتها التي في المخاض ، أو المريضة ، وتارة تتدثر باللحاف فوق رأسها كطشت العجين ، مدعية المرض أو البرد أو النعاس ، وهم جميعا ، في ذات الغرفة الوحيدة الطينية الدافئة بهَيجان خلف وفوَران صفية ، فتغدو القنديل الذي تستهدي به فراشات خلف في حضرة العتمة والسكون ..
ـ خلف ؟؟!!
ـ وماذا ينقصه يا سيدي ؟؟ إن له جسدا أقوى من ثور هولندي ، وأصلب من سد الفرات ..
ثم ماذا تريد فتاة كـ " صفية " ، من شاب كـ " خلف " غير ذلك ؟! وهي ذات قامة فريدة الجمال في المنطقة كلها ..
ويُحكى عنها أنها تحمل كيس حنطة ، وأنها قتلت أكثر من عشر أفاع في البيت وما حوله .. وقد روى خلف لي ، أنهم في سهرة رأوا أفعى تتسلل من تحت الباب ، فاسترجل مندفعا إليها ، لكن صفية دفعته وأبعدته ، وكادت توقعه أرضا ، فكمنت جانب الباب ، وبخفة وضعت قدمها فوق الرأس ، وسيطرت بيديها على البقية ، ثم أمسكتها وخرجت لتهرس رأسها بين حجرين ..
ـ هل شاهدتَ صفية ؟
ـ لقد كذّبتُ خلف كثيرا ، حتى قرَنَ لي كلامه بالدليل القاطع ..
يومها ، تسللنا من السرية ليلا ، وهناك ، لقيت ما لقيت ..
صمت برهة ، متلفتا حوله ، ثم تابع بصوت خفيض يوحي بالسرية والأهمية ، مشددا : إن الاحترام والتقدير اللذين عُوملنا بهما ، لم ألقَ مثلهما في حياتي ..
يا سيدي ، أقسم لك ، لقد طمرونا بالوسائد وأتخمونا بالطعام .. إنهم يعتبرون خلف ملاكا في هيئة إنسان ، ويعاملونه على هذا الأساس ..
كانت صفية ترتدي ثوبا مُوَرّدا موشى بألوان فاقعة تماهت مع قدرتها على السيطرة وتحقيق ما تريد ..
ولم ترفع عينيها عنه ، كأنها ستلتهمه شوقا ..
ولم أكن أتصور أنها تجيد كل هذا " البتك " ..
( واعذرني يا سيدي ، فأنا تعلمت هذه الكلمة منك ، وهكذا فهمت معناها منك .. ولم أجد وصفا ينطبق تماما على تصرفاتها ، غير هذه الكلمة ) ..
ـ إذن ، عليك أن تكفـِّر عن خطئك بحق حامد ..
ـ سأفعل .. وسأحاول مع خلف أن يصطحبه معه إلى بيت صفية ، فأضرب عصفورين بحجر .. أكفـِّر عن خطئي ـ وهذا هو الأهم ـ وأدفع بحامد للتخلي عن البدلة لخلف ..
ـ أيفعل ذلك ؟؟
ـ حامد لا يمانع .. لكن خلف قد يرفض ، لجبن حامد وغبائه ..
إن خلف يعتقد : إذا ما داس أحد الضباط على ذيل حامد ، فإنه سيتقيأ كل ما في جوفه ، ويفضح الأمر ، مما قد يجر وَبالا على رأس خلف هو في غنى عنه .. صحيح أن الأمر مفضوح ـ إلى حد ما ـ في القرية وبين العساكر ، لكن " ذريعة الحليب " تغطي وتستر ..
ثم ، ألا تذكر خيبة حامد في جلب الحليب يوم كان خلف مغادرا ؟؟ 
يومها ، قال لك : لا يوجد أحد في البيت .. كذاب .. طردوه ، ولم يعطوه الحليب .. وظل يذهب كل يوم ويعود ، ليقول لكم ذات السبب ..
ألا يغيبون عن الدار إلا حين يغيب خلف ؟! ..
ثق يا سيدي ، أنهم لا يعطونكم الحليب لقاء خبزكم اليابس فحسب .. إنهم يمنحونكم الحليب ، كي لا تنقطع رجل خلف عن بيتهم ، وكي يظلوا متسترين بهذه الحجة ..
قال عمار كلماته الأخيرة وهو يتحفز للوقوف .. ثم وقف بخفة الملسوع ، وتوجه إلى الباب وهو يقول :
ألم أقل لك : إنها حكاية طويلة لا تنتهي ؟!
إنك سريع الملل ، ولولا ذلك لرويت لك فصولها أياما بلياليها ..
عاد بخطواته إلي ، عندما قرأ في وجهي ملامح الرغبة في الاستماع من جديد ، وتابع :
خلف يا سيدي ، بطل مسلسل السرقة في السرية .. وكانت الحلقة الأولى منه سرقته صورة شخصية لأخت المحاسب في أول أيام التحاقه هنا .. وتتالت الحلقات ، لتشهد السرية سرقة الطلقات والمخازن من جعب الحرس ..
ـ لكن ، أين اختفت البدلة ؟؟
ابتسم عمار كأنه يواسيني : ألم تعلم بعد بوجودها ؟! لقد وجدها حامد ملفوفة في الرداء الواقي لخلف ، وأخذها دون معارضة منه ، ودون أن يطالب باسترداد المئة ليرة .. لقد اكتفى بارتدائها مرتين ، طوّق خلالهما عنق صفية وجسدها المربرب ..

2 ـ

كنا في أواخر كانون الأول .. صقيع الأرض يزيد في شدة برودة الليل .. والرياح تدفع بالغيوم سريعا ، فيتقطع ضوء القمر ، ويطل من خلال فجواتها مترددا خجولا ..
ثمة نباح أجوف بعيد ، يتناهى قاطعا حبال السكون الليلي ، منطلقا عبر السهوب الجرد المحيطة بالسرية ..
تهتز المصابيح المعلقة على أبواب الخيام ، فتتلاشى الظلال ، ثم تستقر مع توقف التيارات الهوائية الجافة ..
قبيل منتصف الليل ، اندسست في سريري تحت عدد من البطانيات ، بينما بقيت نيران المدفأة تبعث فيما حولها شيئا من الدفء ، وبصيصا ورديا جميلا يلون سقف الخيمة ..
لم أدر لِمَ تواردت على مخيلتي صور ليالي الصيف ، وسرحت معها حتى انتابني الخمول مع وصول الدفء إلى أطرافي ، وكادت عيناي تغفوان حينما اجتاحت المربضَ تياراتٌ هوائية شديدة خنقت المدفأة ، وكمّت أنفاسها ، فامتلأ المكان بدخان حارق ، جعلني أقفز لأفتح باب الخيمة ، فتدفق هواء أهوج ..
ولأن الكهرباء في السرية مسروقة من كوابل الشبكة الرئيسية بطريقة غير فنية ، انقطعت الكهرباء مع اشتداد العاصفة ، وبدأت زخات من المطر تعزف على غطاء الخيمة ، لحنا إفريقيا صاخبا ..
التجأت إلى السرير .. تدثرت .. ثمة مذياع صغير يبدد وحشة المكان بأغنية عاطفية قديمة ..
سقف الخيمة ما يزال طبلا يوقّع ضرباتٍ تتناسب مع لحن الأغنية ، أو ، هكذا خيِّلَ إلي .. ومعها بدأ السقف يهتز مصفقا كأنه يريد أن يطير انسجاما مع اشتداد قوة الريح ..
وإذ تخلخلت أوتاد الخيمة من شدة الاهتزاز ، ترنحت الخيمة ، ثم صارت منطادا ، وحملت معها المدفأة قليلا ثم ارتمت بتأثير ثقلها ، وانسفح المازوت ، وقد قدّر الله ولطف ، أنها كانت مطفأة ..
ذلك ما أذهلني عما أسمع من أصوات وأوامر : قف .. من أنت ؟ صوت رشقات رصاص ..
لم يعد ثمة مزاح في الأمر .. تناولت بندقيتي ، وخرجت ..

كان البعض كمن خرج من بين الركام ، وآخرون ظنوا أنهم في حلم مرعب ، أو تحت تأثير كابوس ما .. وبعضهم ظن أن " القيامة قامت " ..
لم يبق من الخيام صامدا سوى خيمة النقيب وخيمة الرقيب أحمد محاسب السرية وخيمة عناصر الإشارة ..
وقد تطايرت وتبعثرت أشياء كثيرة ..

أقسم خلف أمام الجميع ، أنه قتل جنّيًّا كاد أن يخنقه بيدين من حديد ..
كان يرتجف ويهتز بشدة ، وتصطك أسنانه ، وتحت ضوء مصباح يدوي ، بدت عيناه وعاءين من دم وسط بركة من طين ، وبصعوبة نطق :
ـ يا سيدي ، والله لو لم أطعنه بالحربة أولا ، لما استطعت الإفلات منه ، ورشه ..
جمّد الهلع لسانه ، فتقطعت الكلمات إلى حروف مبهمة أحيانا :
ـ أنا كنت ذاهبا باتجاه سيارة الحاسب لألتجئ من المطر ، فأحسست أن قدمي داست على شيء رخو .. والله ما بزل عليك يا سيدي ، ارتعشت ، وتراجعت ، وسليت الحربة من الغمد ، فشب عليّ ، واندفع نحوي .. دفعني إلى الخلف بقوة ، فوقعت ، لكن الحربة لم تفلت من يدي ..
كان شيئا ضخم الجثة .. انظر يا سيدي .. دمه غزير .. انظر .. انظر .. يا رب نجني .. أعوذ بالله .. أعوذ بالله منهم ..
لم تدع الريح ساكنا إلا ما أثقلته مياه المطر والطين .. والعتمة تغلف المكان ، وتضفي عليه رهبة موحشة ، يبددها لثانيةٍ قدْحُ زنادٍ ، أو قدْحُ برق ..
كانت خيمة عناصر الإشارة هي الأقرب ، فتحامل خلف على زملائه ، ودثروه .. وذهبت أنا إلى خيمة النقيب ، فتعالت أصوات العسكر مختلطة بالريح والمطر والبرق والرعد :
عاش خلف .. عاش خلف .. يسقط الجن .. تسقط العفاريت ..
جاءني عمار : يا سيدي ألا تريد أن ترى العفريت الذي قتله خلف ؟
أخذت معطف النقيب ، وخرجت مستهديا بضوء مصباح صغير في يد عمار ..
لم تهدأ الصيحات بعد ، بل ألـّفوا أغنية :
جينا وجينا وجينا    جبنا العفريت وجينا
كرمال عيونه الكحلا  كل الدنيي تلاقينا ....
صاح فيهم عمار أن يهدؤوا بوجودي ، فسكتوا وسلطوا أضواء مصابيحهم فوق جثة تسبح بالدم والطين ..
كنت متوقعا أن أرى ما رأيت ..
وحين دخلت لأهنئ خلف بنصره ، عادوا للغناء والدبكة ، فبدت أسارير خلف منفرجة ، وقد استعاد بعضَ دفئه وثقته وتوازنه ، وانتعش لتهنئتي والثناء على قوته وبطولته ..
قلت مادّا له يدي : هيا يا خلف ، أيها البطل ، قم احتفل معنا بنصرك ..
أخذ يدي ، وأزاح عنه أكوام البطانيات ، منتفضا برشاقة ..
قفز خارج الخيمة ، فسلطوا أضواءهم على وجهه ، ثم جذبوه إلى الدبكة في حلقة تدور حول الجثة ..
وكان لا بد من وضع حد لهذه الليلة :
ـ توقفوا .. توقفوا ..
قلت لخلف : أيها المقدام ، هل هذه هي الجثة التي طعنتها وأطلقت عليها النار ؟
ـ يا سيدي ، لم أرها جيدا في العتمة .. لكنها ضخمة جدا وقوية ..
قلت للحاضرين : أرونا الجثة ..
توزعت المصابيح بين الجثة ووجه خلف .. هجم في البداية على الجثة كأنه يريد الانتقام منها .. وفجأة ، ارتد وانكمش كقنفذ ، وستر عينيه بكف مرتجفة ، ثم دنا من الجثة ثانية وقد أزاح عنها المطر المصبوب شيئا من الوحل والدم ، حملق فيها ، ركلها ، تجمدت قسماته ، وتهدلت شفته السفلى متحاشيا الأضواء التي انصبت كلها عليه ..
تأتأ بصعوبة وهو يهز رأسه يمنة ويسرة :
لا لا .. لا يا سيدي ..
إنهم كذابون .. إنهم أوغاد ولد حرام .. مستحيل يا سيدي ..
إنهم يكرهونني .. إنهم يغارون مني ..
أقسم لك يا سيدي أنهم أبدلوا الجثة ..
أبدلوها والله الذي لا إله إلا هو .. أبدلوهااااااااااااا ..
كان رجلا ضخما .. أبدلوه بكلب ..
مستحيل .. مستحيل .. أعوذ بالله منهم .. أعوذ بالله ..

كان البخار يخرج من فمه مع أنفاسه المتلاحقة ، واستغرق المطر كمية الرذاذ المتطايرة من شفتيه ..
وإذ عادت الدبكة تدور حول الجثة وخلف ، سقط بجانبها وصار يتقلب ويتمرغ بالوحل ..

16/10/1984
27/02/1986
05/01/1987
الأحد ـ 11/12/2011

الخميس، 1 ديسمبر 2011

احتفالية أبي العلاء المعري


احتفالية أبي العلاء المعري



 ربما تكون الصور التي التقطتها ، أثناء الانتقال من جامعة حلب إلى ضريح الشاعر أبي العلاء المعري في مدينة المعرة ، هي الذكرى الوحيدة لاحتفالية كلية الآداب بإطلاق اسم الشاعر على أحد مدرجاتها ، واغتنام الفرصة المتاحة بالإضاءة على بعض جوانب ومميزات شعر أبي العلاء وشخصيته وفكره الفلسفي ..
وقبل أن نصل إلى مكان الضريح ، توقعت أن أرى مكانا يليق بمكانة وعبقرية صاحب " اللزوميات " و " سقط الزند " ، لكن مع الأسف ، لا شيء مما توقعت ..
وعلى مبدأ :
تعَبٌ كلها الحياة فما أعْجَبُ إلا من راغبٍ في ازدياد ..
تذكرت مطلع قصيدةٍ شهيرةٍ للأنباري ، في رثاء محمد بن بقية وزير عز الدولة البويهي :
عُلوٌّ في الحياة وفي الممات  لـَحَقٌّ تلكَ إحدى المعجزاتِ !!

 لم يكن عددنا يتجاوز العشرين ، ولم تكن الزيارة منسقة مع أحد في معرة أبي العلاء ـ كما يبدو ـ لأننا لم نلحظ قيامهم بواجب تقديم الماء لنا ، مثلا ..
وذلك لا يعفيهم من التبعات ، بعد أن عرفوا أن ضيوفهم جاؤوا من حلب لزيارة قبر" رهين المحبسين " ..
ولم تكن عمادة الكلية في وارد حساب شيء من ذلك ، ولم يأخذونا حتى إلى استراحة في الطريق ، بذريعة أننا يجب أن نعود سريعا إلى الكلية لاستكمال إجراءات افتتاح أسبوع الاحتفالية ، وهي :
إطلاق اسم " المعري " على مدرج في الكلية ، برعاية رئيس الجامعة د. أحمد يوسف الحسن ..
وبالفعل ، أزاح د. أحمد يوسف الحسن رئيس الجامعة الستارة " الصغيرة " عن لوحة " صغيرة " ثبتت إلى يسار باب المدرج ، كتب عليها " مدرج المعري " ..
وإذ دخل الحاضرون إلى المدرج ، ألقى د. عمر الدقاق عميد الكلية كلمة حول المناسبة ، ثم رُفعت الجلسة قليلا ريثما غادر المكانَ رئيسُ الجامعة ..
ثم ارتجل المرحوم الدكتور محمد حموية حديثا مختصرًا عن " شاعر الفلاسفة ، وفيلسوف الشعراء " ..
ووزعت مطبوعة خاصة بالمناسبة ، فيها مواعيد الاحتفالية لأسبوع قادم كامل ، يتضمن عددا من المحاضرات والنشاطات الأخرى ..
وبانتهاء اليوم الأول من الاحتفالية ، توارت فعاليات الأيام التالية وراء انهماك الجميع بدوامة العمل اليومي ..
وبعد أن تلاشى الاهتمام والبريق ، اقتصر الحضور في الأيام التالية ، على عدد محدود جدا من الطلبة وبعض المهتمين من الأساتذة ..

الخميس ـ 01/12/2011